أعتقد بأننا جميعا على يقين بأن وزارة التعليم متوجهة بقوة نحو تطوير المنظومة التعليمية في مجالاتها كافة.. وكأني بها تنطلق في عملية التطوير هذه من مفهوم (الهندسة القِيمِيَّة)value engineering وتُعرَّف الهندسة القِيمِيَّة بأنها “جهد جماعي منظم لأجل تحليل وظائف المشروع ومطابقتها لأهداف ومتطلبات المالك والمستفيد،ومن ثم ابتكار بدائل تؤدي تلك الوظائف، وتحقق الأهداف بأقل تكاليف ممكنة دون الإخلال بالجودة والوظائف الأساسية، فهي تقنية حديثة وعلم منهجي معروف أثبتت مكانتها، لأنها تساعد على تقليل التكلفة وتحسين الجودة في آن واحد”. وهذا المبدأ في التطوير لأي مشروع أو منظومة تتولد الحاجة إليه في حالات عديدة ــ كما يقول أهل الاختصاص ــ منها:
*الرغبة في تحقيق أعلى جودة ممكنة مع ثبات التكلفة.
*الرغبة في تحسين أداء المنتج أو المشروع أو العملية.
*الحاجة إلي زيادة الإنتاج.
*الحاجة إلى تحسين أو تطوير التصميم أو المنتج.
*الحاجة للتخلص من كثرة الخطوات أو العمليات الخاصة بالإنتاج.
*الرغبة في تحسين أداء العاملين والتركيز على الإنتاج.
وقد لا نختلف بأن وزارة التعليم وفروعها (الإدارات التعليمية) تعيش تلك الحالات وغيرها.. وباتت أحوج ما تكون لعملية تطوير شاملة تنهض بأدائها، وتزيد من كفاءة مخرجاتها..
وقد تابعت ــ مثل غيري من منسوبي التعليم والمهتمين بشؤونه ــ تصريح معالي وزير التعليم الأستاذ: يوسف البنيان بأن الوزارة من بداية العام 2024م سيكون دورها (تشريعيّاً) فقط. وجاء في الإيضاح “أن إدارات التعليم ستفوَّض بالصلاحيات كافَّة دون تدخل تنفيذيّ من الوزارة، مما يخلق نوعا من المنافسة والتطوير المستمر والمستدام للعملية التعليمية، وتركيز المسؤوليات أكثر من خلال الإشراف والرقابة المهنية والتعليمية والمسلكية بحسب الاختصاص المكاني لكل إدارة تعليم”.
وعلى فرض بأن هذا الإيضاح يُجلّي الرؤية حول التَّصريح المشار إليه، من حيث المضمون نفسه ومن حيث آليات تنفيذه ومكتسباته.. فإن ثمَّة أسئلة تلوح في أفق هذا التوجّه، وتحتاج إلى إجابات وافية ــ سواء كانت الإجابات مقنعة للتربويين في الميدان أو غير مقنعة ــ ومن تلك الأسئلة التي تُلِحُّ بقوَّة:
*هل الإدارات التعليمية حاضرة ومستعدة لهذه النقلة في آليات العمل؟
*هل هذا التوجه مرتبط بالهيكل الذي طال انتظاره حتى ظنناه محض خيال؟!
*ثم، هل تفويض الصلاحيات للإدارات التعليمية، وآليات تنفيذها في واقع الميدان، وما يتوقع أن يحققه ذلك من مكتسبات تحدث عنها (الإيضاح) سوف ينعكس على أداء المدرسة وانطلاقها بذاتها في مسار التنافس والتطوير المستمر…؟
وقبل مناقشة هذه الأسئلة ــ التي أحسب أنها مشروعة ــ بُغية تلمُّس إجابات عنها يشتمل عليها تحليل التوجه المرتقب الذي كشف عنه تصريح معالي الوزير؛ فإنني أذكر ـــ وللتاريخ ـــ أن توجه الوزارة نحو استقلالية إدارات التعليم بصورة أو أخرى، قديم بعض الوقت، وأتذكر جيدا حتى هذه اللحظة حديثا قبل نحو من تسع وعشرين سنة لمعالي وزير المعارف الدكتور محمد الرشيد ــ رحمه الله ــ في العام الدراسي 1416هـ 1996م في لقائه بمنسوبي التعليم في زيارته لمنطقة نجران، ذلك اللقاء الدافق برؤية التربويّ القائد، المشبع بطموح متوهج تدفعه رغبة شديدةفي تطوير عناصر المنظومة التعليمية التربوية كافة.. حيث تحدَّث ــ يرحمه الله ــ عن رؤيته لمستقبل التعليم في المملكة،وذكر بأنه يتطلع لليوم الذي تكون فيه كل إدارة تعليم مستقلة في قراراتها وممارساتها وإدارة عملياتها التعليمية والتربوية، بل وزاد على ذلك فقال: إنني لأرجو أن يأتي اليوم الذي تكون فيه المدرسة ــ نفسُها ــ مستقلة حتى في ميزانيتها.
كانت تلك الكلمات من معالي الوزير الرشيد ــ يرحمه الله ــ تمثل فكرا متقدما جدا طرأ على وزارة المعارف في تلك الفترة من الزمن، وكانت ــ في ظني ــ بمثابة الإعلان الأول عن الحاجة الماسَّة لتطوير المنظومة التعليمية في بلادنا تطويرا كُليّاً، ينتزع الوزارة من الانغماس في التقليدية والبيروقراطية التي تتسرب منها إلى إدارات التعليم ومن ثم إلى المدارس، ويجعل من الوزارة جهازا إشرافيا تشريعيا رشيقا، يعزز عمل الإدارات التعليمية في المناطق والمحافظات، ويحفزها لأداء أدوارها على نحو ينهض بالمخرجات التعليمية ونواتجها،لتواكب المستجدات والمتغيرات على مستوى الوطن والعالم، وبخاصة في مجال استثمار تِقانَة العَصْر وحُسن توظيفها. ومضت الوزارة منذ ذلك الحين في عمليات تطوير عديدة شملت الهياكل والمناهج..وامتدَّ كثير من تلك العمليات إلى إدارات التعليم، وأحدثت فيها تغييرات منها الإيجابي الذي كان مناسبا في وقته، ومنها ما لم يكن موفقا.. وعاشت الوزارة فترات مدٍّ وجزركثيرة، ووجدناها في بعض فتراتها تُقْدِمُ على إحداث تغييرات جوهرية ثم سرعان ما تتراجع عنها! حتى غلبتعليها حالٌ من التَّرهُل لا تخفى على أحد.
ومنذ ما يربو على عشر سنين بدأ الحديث في أروقة الوزارة عن هيكلة جديدة، يذكر الذين تبنوها والقائمون عليها أنها السبيل الوحيد لتطوير التعليم تطويرا يواكب المرحلة، ويحقق مستهدفاتها.. والعجيب أن هذا الهيكل الذي أصبح الشغل الشاغل لمنسوبي التعليم في وكالات الوزارة وفي الإدارات التعليمية ــ على فرضية أنه فعلا سيكون المنْقذُ والمنْفَذ إلى التطوير المنشود ــ العجيب أنه حتى هذه اللحظة لم يرَ النور بشكل واضح وقطعيّ، وبخاصة في إدارات التعليم التي تباشر الإشراف على العملية التعليمية!وأصبح كثير منا ينزعج لمجرد الحديث عن الهيكل ويتساءل: هل كانت (المدرسة) حاضرة في أذهان جميع من عملوا ومن يعملون على صناعة هذا الهيكل وإخراجه؟ وهل هذا الهيكل يُبْنى وفق نظرة إستراتيجية استبانت الطريقَ أمامها؟ أم تسوقُه وجهات نظر تقيس على بعض التجارب هنا وهناك، وتختلف بحسب قناعات أصحابها، وتخضع لعوامل القوة والضعف التي يمثلونها كل في موقعه من الوزارة! وأيا كانت الأسباب فإن (الهياكل) ليست في نهاية المطاف سوى أُطر تنظيمية تدور في فلك الوسائل، ومهما ادعينا قدرتها ــ منفردة ــ على إحداث التطوير التعليمي المنشود؛ سوف يظل أمر ذلك التطوير غير معقود عليها وحدها!
وببساطة شديدة وبعيدا عن كل النظريات والتنظير.. نحن جميعا نعلم بأن مؤسسات التعليم العام في كل زمان ومكان إنما تعمل من أجل (الطالب) وهذا الطالب موقعه حجرة الدراسة وحجرة الدراسة لن تكون في غير (المدرسة)، وهذا ما يعرفه ولي أمر الطالب والمجتمع، أما ما يدور في أروقة الوزارة وإدارات التعليم ــ مهما كان ــ فإن ولي أمر الطالب والمجتمع ــ في الغالب ــ لا يهتم له ولا يعنيه، وليس ثمة ما يلزمه بالاهتمام به؛ ولأن هذه هي الحقيقة وهي المحصلة النهائية لكل الخطط التطويرية، وما يصحبها من تشريعات وأنظمة تستهدف المنظومات التعليمية الكبرى؛ فإن السؤال الذي أراه جديرا بالعناية: هل المدرسة حاضرة في كل هذا الحراك؟ وما حظها من التغييرات التي سوف تشهدها الوزارة وإدارات التعليم قريبا؟ وإن شئتَ قُل: كيف تنعكس العمليات التطويرية المنتظرة في الوزارة وإدارات التعليم على المدرسة؟
وإذا كانت الشكوك لا تساورنا بأن المدرسة حاضرة في عيون الجميع أثناء بناء البرامج والخطط التطويرية في الوزارة، بل في نظام التعليم العام برُمَّته؛ فإن الأهم، هل بالضرورة أن تنعكس مخرجات تلك الجهود التطويرية مهما كانت حدودها وأبعادها.. علىأداء المدرسة ومخرجاتها…؟
وأعتقد جازما أن الإجابة عن هذا التساؤل ترتبط ارتباطا وثيقا بواقع الإدارات التعليمية ومدى استعدادها للعمل في ظل التمكين الكامل الذي تتغياه الوزارة! وفي ظني ــ وانا ابن هذه المنظومة وأعيش تفاصيلها زُهاءَ اثنتين وثلاثين سنة ــ أن إدارات التعليم سوف تتباين في أدائها حين تكون لها الصلاحيات ــ شبه المطلقة ــ تباينا كبيرالأسباب عديدة منها: الثقافة العمليَّة السَّائدة في كلّ إدارة تعليم، ثُمَّ وعْيُ الإدارة نفسها ومهاراتها…ولذلك فإنه بمجرد التطبيق سوف نرى إدارات تنطلق بقوة وثبات وتفاعل خلاق متناغمة مع التمكين، ونجد إدارات تُبادر وتُطور أداءَها وفق رؤية متماهية مع الصلاحيات التي مُنحَت لها، وفي ذات الوقت سوف نجد إدارات حائرة لا تنفك تسأل: ماذا تفعل…؟! وأخرى تتَّجهُ لاستنساخ تجارب إدارات ترى فيها الأنموذج.. وهلُمَّ جرَّاً !
ولست أنظر هنا ــ متشائما ــ إلى نصف الكوب الفارغ،ولكنني أتصور أن الإدارات التعليمية ــ قبل التمكين المنتظرــ هي في أمس الحاجة إلى قيادات استثنائية تدعمُ التوجُّهَ الجديدَ وتواكبه (فكريا ومهاريا)؛ لدعم عمليات الإصلاح الداخلي الشامل والمراجعات المتأنيَّة لطبيعة الممارسات التعليمية فيها، ومن ثمَّ تُمنح الصلاحيات والاستقلالية، فنكون حينئذ مطمئنين إلى قُدرتها على تحقق الأهداف التي تتطلع إليها الوزارة من الإقدام على هذه الخطوة. وإذا وصلنا إلى هذه المرحلة في إدارات التعليم، فإننا رجو ــ بإذن الله ــ أن ينعكس ذلك بصورة إيجابية على المدرسة التي هي المستفيد الأساس من كل هذا الحراك.
وبالمناسبة، قد يظن كثير ممن قَصُر باعهم في فهم حقيقة العلاقة بين المؤسسة التعليمية ــ وزارة أو إدارة تعليم ــ وبين المدرسة، أن العلاقة بينهما علاقة (طرديَّة) ولكن هذا الظن ليس صحيحا على إطلاقه؛ لأن أداء المدرسة ليس بالضرورة أن يتراجع بتراجع أداء الإدارة التعليمية أو الوزارة في جميع الأحوال، وليس بالضرورة ــ كذلك ــ أن يمتاز دوما بتقدم أداء الوزارة أو إدارة التعليم! مع أن المفروض أن تميز الأداء في المؤسسة التعليمية الإشرافية وزارة أو إدارة يدفع بالمدرسة نحو التميز لا محالة!
فواقع الحال يؤكد بأن تجارب كثيرة أثبتت نجاح المدرسة في مخرجاتها وتميزها في إدائها.. بمعزل عن الواقع الذي يعتري الإدارات التعليمية أو الوزارة، وحين يتميز أداء الإدارة والوزارة تفيد المدرسة منه بلا أدنى شك، وتظل ثابتة في جودة عملها عندما يتراجع أداء الوزارة أو الإدارة! ولكن، ليست هذه القاعدة مضطردة يمكن لنا أن نعممها على جميع المدارس، وإلا لما كانت هناك حاجة لوجود الوزارة أو إدارات التعليم.
وهنا نقف لنسأل: أيّ المدارس تلك التي تعمل بنجاح مُنصرفَةً إلى هدفها، مهتمةً بمخرجاتها لا تتأثر كثيرا بالتغييرات والخطط والهياكل المتعاقبة في الوزارة وإدارات التعليم؟!
والجواب، هي تلك المدرسة التي رُزقَت إدارة تربوية تمارس القيادة بوعْي وتدرك حقيقة دورها، وتعرف كيف تُوظِّف مُمكنات النَّجاح وتُوفّر مُتطلباته..وهذه النماذج موجودة بالفعل نجدها في بيئات مختلفة، بل ومتباينة أحيانا داخل المدن والأحياء وفي القرى والشعاب.. لا يؤثر عليها وجودها في مبنى حديث متكامل التجهيزات،أو في مبنى مستأجر محدود الإمكانات؛ لأن فيها إدارة مسؤولة تقود منظومتها بروح خلاقة وتدفعهم للعمل بشغف وحُبّ وصدق.. بعيدا عن مراقبة ما يحدث في إدارة التعليم فضلا عن التأثر السلبيّ به. وهذه النماذج من المدارس قليلة، ولكنها موجودة، فكيف نجعل مدارسنا جميعها تحاكي هذا النموذج الذي يمثل النجاح في أبهى صوره، ويعكس اهتمام قيادتنا بالتعليم،وحجم الإنفاق الكبير عليه، وتعليق الآمال على مخرجاته، لتكون لبنَةَ المستقبل الذي رسمتْهُمستهدفاتُ الرؤية؟
إن الحقيقة التي لا يكاد يختلف فيها اثنان تشير إلى أن (المدرسة) هي المحصلة النهائية والمخرج الأخير الذي تتوخاه كل البرامج التطويرية التي تعمل عليها وزارة التعليم، ونجاح المدرسة في عملها هو المقياس الحقيقي بل الأوحد في نجاح أهداف الوزارة وإدارات التعليم.
وإذا كان الأمر كذلك، فكيف ينعكس التغيير القادمعلى المدرسة فتكون أول المنتفعين به؟ نحن نُريد من المدرسة كلَّ شيء.. ونُلقي على عاتق مُديرها كلَّ الحِمْل، ونُحمّلُهُ المسؤوليات كافة.. فماذا سوف يُقدَّم له لنكون منطقيين فيما نطلبه منه؟ وهل سوف تظل آليات ومعايير اختياره كما هي في حال مَنْح جميع الصَّلاحيات للإدارات التعليميَّة؟ أم سوف نشهد تشريعات جديدة تُعطي الإدارات مساحة واسعة في عملية استقطاب القيادات المدرسية؟ وهل سوف نجد تشريعات جديدة تدعم مدير المدرسة، وتمكنه أكثر، وتحاسبه بنفس المقدار..؟
أما بعد:
فإن عملية التطوير سوف تأخذ وقتها حتى تؤتي ثمارها.. ونؤمل أن يكون التغيير القادم في وزارتنا مُلْهماً، وأن تكون المدرسة قاعدته ورأس هرمه في آن معا..
مكة المكرمة الأربعاء 17ربيع الآخر 1445هـ المصادف 1 نوفمبر 2023