المقالات

وعد بلفور: جريمة بريطانيا الكبرى في حق الشعب الفلسطيني

انقضت ستة أعوام بعد المئة على جريمة “وعد بلفور” المشؤوم، ولا يزال الشعب الفلسطيني يعاني ويلات انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي العدوانية والعنصرية من قتل وحصار وتدمير واعتقال وتهجير وسلب ومصادرة الأرض، ومخططات الاستيطان والتهويد. ورغم همجية الاحتلال الإسرائيلي، يؤكد الفلسطينيون يوما بعد آخر تشبثهم بأرضهم، وتمسكهم بالمقاومة خياراً لتحرير الأرض، واستعادة جميع حقوقهم الوطنية المسلوبة.

ويذكر أنه عنما صدر وعد بلفور في 2 نوفمبر 1917، كانت القوات البريطانية والأسترالية تخوضان الحرب ضد العثمانيين، وعلى وشك الدخول إلى فلسطين، والاستيلاء على القدس.

.وقد لا يكون من المستغرب القول إن الهدف الأول من احتلال بريطانيا لفلسطين نهاية العام 1917 هو تنفيذ وعد بلفور، الذي نص على إقامة “وطن قومي لليهود” على أرض فلسطين عبر الرسالة التي وجهها وزير خارجية بريطانيا حينذاك أرثر جيمس بلفور إلى اللورد روتشيلد، بما ظل يعرف على مر السنين بأنه “وعد من لا يملك لمن لا يستحق”، أو كما وصفه الكاتب اليهودي أرثر كوستلر: «إن أمة ما وعدت أمة أخرى بأرض تملكها أمة ثالثة”… ليس المستغرب أن يكون هدف هذا الاحتلال تنفيذ مضمون هذا الوعد على أرض شعب سرقت أرضه في وضح النهار وعلى مرأى ومسمع العالم كله الذي لم يحرك ساكنًا لمنع تلك الجريمة… المستغرب حقًا أن تفخر الامبراطورية التي لم تكن الشمس لتغيب عنها في ذلك الوقت، بمسؤوليتها الآن الاعتراف بهذه الجريمة التي اقترفتها في حق شعب كان آمنا ومستقرا على أرض الآباء والأجداد منذ آلاف السنين، بما أدى إلى آلام ومعاناة ظلت – وما زالت – تلازمه عبر أكثر من قرن، لم يذق خلالها طعم الحرية.

وقد شكّل وعد بلفور، الخطوة الأولى نحو هدف الصهيونية السياسية كما حددها المؤتمر الصهيوني الأول في اجتماعه في بازل بسويسرا عام 1897.

ولم تكن تلك الجريمة لتكتمل بدون مباركة الولايات المتحدة الأمريكية لها، فالوعد بصيغته التي صدر بها يعتبر المعنى النقيض لمفهوم حق تقرير المصير للشعوب الذي يعتبر أحد المبادئ الأربعة عشرة في الوثيقة التي صدرت عن الرئيس الأمريكي ودرو ويلسون بعد صدور الوعد بفترة ضئيلة، وقبل أن يجف المداد الذي كتب به الوعد المشؤوم. والمفارقة هنا تكمن في أن الحكومة البريطانية كانت قد عرضت نص تصريح بلفور على الرئيس الأميركي ولسون، الذي وافق على محتواه قبل نشره.

وفي 25 أبريل سنة 1920، وافق المجلس الأعلى لقوات الحلفاء في مؤتمر سان ريمو على أن يعهد إلى بريطانيا بالانتداب على فلسطين، وأن يوضع وعد بلفور موضع التنفيذ حسب ما ورد في المادة الثانية من صك الانتداب. وفي 24 يوليو عام 1922 وافق مجلس عصبة الأمم المتحدة على مشروع الانتداب الذي دخل حيز التنفيذ في 29 سبتمبر 1923، وبذلك يمكننا القول إن وعد بلفور كان وعدا استعماريًا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

وقد عملت بريطانيا خلال فترة الانتداب (30 عامًا)، على تكريس جهودها لتنفيذ الوعد، من خلال تمكين اليهود من الاستيلاء على الأرض، وفتح أبواب الهجرة أمامهم من شتى أنحاء العالم، وإنشاء الوكالة اليهودية، وغض الطرف عن العصابات الصهيونية التي استهدفت الجنود البريطانيين أنفسهم فيما بعد. كما لم يكن من قبيل المصادفة أن تعين بريطانيا اليهودي الصهيوني هربرت صموئيل كأول مندوب سام على فلسطين ليكون الأداة الرئيسة في نقل الوعد إلى حيز التنفيذ.

“في الرجوع إلى نص الوعد نستطيع الاستدلال على أنه أول إشارة إلى نص صريح ينادي بإقامة دولتين في فلسطين، وليس دولة يهودية واحدة. فالوعد ينص على الآتي: ” تؤيد حكومة صاحب الجلالة اقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وستبذل قصارى جهدها لتسهيل تحقيق هذا الهدف على ان يكون مفهوما أن شيئا لم يفعل للإساءة الى الحقوق المدنية والدينية للجماعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين والى الحقوق والاوضاع السياسية التي يتمتع بها اليهود في كل الدول الأخرى”، فالجملة : ” اقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين” لا تعني إعطاء فلسطين كلها لليهود لإقامة إسرائيل.

ويذكر المؤرخ الفلسطيني الأستاذ فؤاد عباس في “موسوعة بيت المقدس” إنه لم يلتفت أحد إلى رسالة بلفور وقت صدورها، ولم تنشرها الصحف البريطانية إلا في 9 نوفمبر (1917)، في حين كانت العناوين الرئيسة في الصحف البريطانية حينذاك تدور حول أحداث روسيا حيث كانت قد بدأت ثورة أكتوبر.

وقد عارض الوعد العديد من الساسة والمؤرخين والمفكرين الإنجليز وغير الإنجليز، منهم مستر ج. م. ن جفريز في كتابه “فلسطين وحقيقتها”، بقوله: “إن وعد بلفور أكثر وثيقة مخزية لبريطانيا”. ومنهم الصحفي البريطاني المعروف مايكل آدامز، الذي اعتبر الوعد بأنه يتعارض مع وعد الإنجليز للعرب قبلها بعام بمنحهم الاستقلال، بقوله: “إن وعد بلفور قد تعارض مع الوعد السابق للعرب، وبالطبع لم يكن ممكنًا تنفيذه إلا على حساب العرب، وفي هذا التناقض يكمن جوهر القضية الفلسطينية”. ويقول آدمز في انتقاده للوعد، إن أي شخص لا يعرف فلسطين عام 1917 ليفهم من تصريح بلفور أن غالبية سكان فلسطين هم من اليهود، مع أقليات أخرى، وإذا كان هذا المقصود فإن التصريح يعتبر تشويهًا واضحًا وصريحًا، فهو يعتبر ضد الحقيقة تمامًا، ففي اليوم الذي وقع فيه بلفور رسالته الى اللورد روتشيلد، كان اليهود يمثلون 7-8% من سكان فلسطين، فيما كان الفلسطينيون يشكلون أكثر من 90% من السكان، ويمتلكون 97،5% من الأراضي”. ويرى المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي الذي كان شاهد عيان على الوعد أن اليهود أبقوا تعيين البلد الذي سيقيمون فيه دولتهم القومية المنشودة مفتوحاً حتى عرضت عليهم الحكومة البريطانية موطناً لهم شرق إفريقيا في أغسطس 1903 وعندما رفض المؤتمر الصهيوني السابع هذا العرض عام 1905 أصبحت فلسطين هدف الحركة الصهيونية ومحورها عملياً. ويقرر توينبي أن تحقيق هدف الحركة الصهيونية بإقامة دولة يهودية قومية في فلسطين لم يكن ليتم لولا صدور وعد بلفور.

وقال أدوين مونتاجيو- الوزير البريطاني الذي عارض الوعد- في وثيقة يعود تاريخها الى العام 1917-لكن لم يكشف عنها إلا منذ بضع سنوات (لخطورتها)- “انني أنكر أن لفلسطين أي علاقة باليهود، في وقتنا هذا، أو أن ينظر إليها باعتبارها بلد المكان المناسب لهم للحياة على أرضها، فالوصايا العشر قد أنزلت على اليهود في سيناء، وانه لواقع صحيح أن فلسطين تلعب دورًا كبيرًا في التاريخ اليهودي، ولكن الإسلام لعب دورًا أكبر. كما لعبت أكثر من أي بلد آخر في العالم دورًا هامًا في تاريخ الديانة المسيحية”. كما تعتبر الكاتبة البريطانية الشهيرة إيثل مانن “صاحبة رواية الطريق إلى بئر سبع”، من أشد منتقدي الوعد، وهي تذكر أن اقتراحًا بإلغاء الوعد قدم إلى مجلس اللوردات عام 1921 بواسطة لورد ايزلنجتون ووافق عليه.. ولكن الزعيم الصهيوني حاييم وايزمان اتخذ خطوات لمنع مجلس العموم من الموافقة على هذا الاقتراح.

ويمكن القول دون أي مبالغة أن المؤسس الحقيقي لدولة إسرائيل على حساب أرض وشعب فلسطين هو بلفور وليس بن جوريون، فهو الذي وضع الأرضية التي مهدت لقيام إسرائيل. والوعد – كما قرار التقسيم- لم ينفذ منه سوى الجزء الخاص بتحقيق الهدف الصهيوني بإقامة ” الوطن القومي” لليهود. وفي تطرقها لهذه النقطة، قالت صحيفة “الجارديان” البريطانية في عددها الصادر في 13/10/2017، إن بريطانيا ارتكبت خطأين، الأول تمثل في إصدار الوعد، ولم يكن ذلك من حقها، ولا من صلاحيتها، والثاني أنها – وبالرغم من ذلك- لم تتقيد بمضمونه، وعملت فقط على تنفيذ الشق منه الخاص باليهود. وقالت موضحة إن “الوعد” احتوى على ضمانتين: وطن (وليس دولة) لليهود في فلسطين، وحماية حقوق “غير اليهود”، أي العرب الذين كانوا يشكلون 90% من سكان فلسطين حينذاك. وقد كان الوعد وتبني حكومة الانتداب له، البداية الحقيقية لنكبة فلسطين، التي تبلورت عبر ثلاثة عقود – شكلت فترة الوجود الاستعماري البريطاني على أرض فلسطين- استطاعت بريطانيا من خلالها تمكين اليهود وتزويدهم بعوامل القوة بما ساعدهم على السيطرة على أرض فلسطين وتشتيت شعبها.

في تتبع السياسة البريطانية إزاء فلسطين في فترة الانتداب، وما بعدها، وحتى الآن، لابد وأن يلاحظ ان تلك السياسة اتسمت بالمفارقات والتناقضات، إلا انها، وفي المحصلة، ظلت تميل لصالح الحركة الصهيونية، وتظهر مواقف غامضة إزاء القضية الفلسطينية. من هذه المواقف، على سبيل المثال، أن بريطانيا التي أصدرت وعد بلفور، هي أيضًا التي رفضت التصويت على قرار التقسيم الصادر عام 1947، والذي وافقت عليه واشنطن وموسكو، ويومها قال وزير الخارجية البريطاني إيرنست بيفين إن التقسيم “غير عادل للفلسطينيين”، وأن بريطانيا التي أصدرت الكتاب الأسود (عدة مرات)، لصالح اليهود، هي أيضًا بريطانيا التي أصدرت الكتاب الأبيض (أيضًا عدة مرات) لصالح الفلسطينيين، وان مندوبها في الأمم المتحدة اللورد كارادون الذي صاغ القرار 224 حمل في واقع الأمر صيغتين لتفسير القرار، بحيث يفهم منه أنه لا يدعو إلى انسحاب إسرائيل من كافة الأراضي التي احتلتها في حرب يونيو 67. ولعل من المواقف البريطانية الغامضة ما ذكره مندوب المملكة المتحدة في الأمم المتحدة السابق جوناثان آلان، في محاولته التخفيف من الغضب الفلسطيني والعربي على رفض بلاده الاعتذار للفلسطينيين بسبب إصدارها وعد بلفور ونيتها الاحتفال بمئويته في السابع من (نوفمبر) 2017 بوصفه الوعد بأنه “صفقة لفم تنفذ بالكامل حتى الآن”، مضيفًا أن بريطانيا تتفهم وتحترم ما أثاره الوعد من حساسيات لدى الكثيرين، والأحداث التي شهدتها المنطقة منذ صدور الوعد عام 1917، “إلا أننا ندعم بشكل كامل إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة وقابلة للحياة”، وهو ما يذكر بما عرف عام 2002 بوعد بلير الذي تزامن أيضًا مع وعد بوش بإقامة دولة فلسطين المستقلة القابلة للحياة جنبًا إلى جنب مع إسرائيل تعيش في حدود آمنة.

ويطرح المؤرخ الإسرائيلي آفي شالايم في مقال له نشر مؤخرًا تحت عنوان ” وعد بلفور: دراسة في النفاق البريطاني” السؤال: هل أثمرت تلك السياسة اللاأخلاقية لبريطانيا بإصدارها وعد بلفور أية نتائج مجزية؟ يجيب شالايم بقوله: إجابتي الشخصية لهذا السؤال أنها لم تثمر، فقد أصبح وعد بلفور عبئًا ثقيلًا على كاهل بريطانيا منذ بداية الانتداب حتى الوصول إلى نهايته غير المجيدة في مايو 1948…زعم الصهاينة أن كل شيء فعلته بريطانيا لهم خلال فترة الحربين العالميتين الأولى والثانية جزء صغير من الوعد الأصلي، وأثاروا جدلًا بخصوص أن الوعد كان دعمًا ضمنيًا للدولة اليهودية المستقلة، إلا أن المسئولين البريطانيين ردوا بحجج مضادة بأن ما وعدوا به فقط هو وطن قومي، وهو ما لا يمكن تشبيهه بالدولة بأي حال من الأحوال. وفي تلك الأثناء سببت بريطانيا آلامًا ليس فقط للفلسطينيين بل لملايين العرب والمسلمين. وقد أصدرت إليزابيث مونرو في كتابها «زمن بريطانيا في الشرق الأوسط» حكمًا متوازنًا على تلك الواقعة بالقياس على المصالح البريطانية وحدها، حيث كتبت مونرو أن وعد بلفور واحد من أكبر أخطائنا في تاريخنا الاستعماري. ومن فوائد الإدراك المتأخر أنه يتبين للعيان أن وعد بلفور يعد خطأ استراتيجيًا فادحًا، وكانت النتيجة النهائية هي تمكين الصهاينة من التحكم في فلسطين، ذلك التحكم الذي استمر إلى يومنا هذا بشكل غير شرعي بالرغم من التوسع الاستيطاني عديم الرحمة في الضفة الغربية على حساب الفلسطينيين. ونظرًا لهذا السجل التاريخي من الممكن أن يتوقع البعض أن يطأطئ القادة البريطانيون رءوسهم خجلًا ويتنصلوا من ذلك الإرث السام للماضي الاستعماري.

تصادف ذكرى وعد بلفور هذا العام اندلاع حرب غزة الخامسة (معركة طوفان الأقصى)، التي تعتبر ملحمة جديدة في مسيرة نضال الشعب الفلسطيني الطويلة لتحرير ترابه الوطني، ودحر المحتل الغاصب، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس الشريف ضمن محاولات الشعب الفلسطيني محو كل ما ترتب على وعد بلفور من مآسي ونكبات على شعب فلسطيني المناضل..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى