الثقافيةالمقالات

تبادل الحواس و الرمزية في ” الضرس المخلوع ” للشاعر حسن الزهراني

🖊️- جمعان البشيري

لفت انتباهي تغريدة للشاعر حسن الزهراني في برنامج التواصل الاجتماعي “X “، والتي قد يقرأها الكثير دون اهتمام ويكون مروره عليها بـ”التفضيل أو الرتويت” أو التعليق من باب الدعاء له بالسلامة والشفاء أو من باب الفكاهة والتي جاء فيها:

“جاء في (روايا الراوي) التي تجاوزت الهقاوي وهي ما تشبع الطاوي

‏في الصفحة التي (ما توعي كفحة) وفي (السفر رقم صفر) أنني زرت مركز طب الأسنان في الباحة؛ فوجدت حفاوة مديره الأستاذ سعيد غرم الله الغامدي والذي استدعى المدير الطبي د.سامي الغامدي الذي عرفني وعرّف بنفسه فهو من أسرة شاعرة منها الزميلان الشاعران سعيد وماجد من قرية الغانم.

‏وجاء في صورة الأشعة ضرس العقل المائل قالوا لا بد من خلعه لتزرع مكانه وسابقيه كما فعلت في الفك الأيمن، وحولوني للخلع في مستشفى الملك فهد بالباحة؛ فوجدت فيه د.سعيدة ابنة أخي الأستاذ الجليل محمد الطبجي، والتي كانت معي بكل اهتمامها ونبلها الذي ورثته من أبيها منذ أن دخلت حتى غادرت المستشفى بدون ضرس ولا عقل.

‏ووجدت الطبيب الراقي من الشقيقة مصر قال: سلامات يا فندم ، قلت: الله يسلمك.

قال: سمعت إنك شاعر.

‏قلت: (أنا شاعر بوجود يا باشة).

‏مات ضحكًا

‏وقال لسعيدة: اليوم مش حنخلص

‏وعندما أعد حقنة البنج قلت له:

‏لا لا خلع أسناني كلها أهون عندي من وجع شكة الإبرة، أرجوك خدرني بأي طريقة، أنا عندي (فوبيا الإبر منذ الصغر) حقن فكي الأيسر بواحدة وثانية وثالثة، وأنا صامد كالأسد فقط سقطت من عيني كم دمعة بلا صوت، وبعد تمكن البنج مني أخذ أدواته، وشرع في الخلع الذي تحول إلى عملية استمرت قرابة الساعة ثم أراني ضرسي المخلوع في كماشته وبقايا الدماء عليه وضع قطنة لإيقاف النزيف وعندما رفعها انفرطت من مكان الضرس بكرتان من ورق الكاشير الصغير الذي تظهر عليه الفواتير في المحلات التجارية، انفرط الرول ونحن في ذهول تراجع الطبيب خرج الشريط الأول من الورق من الشباك الأيمن والثاني من الشباك الأيسر.

‏سأل الطبيب: (إي ده يا أستاذ) ؟؟!

‏وكأنما يحدّثُ أبكمًا

‏(رد الضرس من الكماشة)

‏بصوت متلعثم والدماء مازالت فيه، فهمنا منه أنه يريد من الطبيب ينزله من الكماشة ليتمكن من الحديث، وعندما وضعه على المنشفة التي عليها أدواته الطبية قال الضرس: يا دكتور..

‏أما الشريط الأول ففيه بيان كل ما أكل عليّ هذا النّهم منذ حليب أمه (ثريا) -رحمها الله- إلى صينية البطاطس بالدجاج بالفرن التي هرسها البارحة، وقيمة كل لقمة أكلها عليّ أنا ورفاقي الذين مازالوا في فمه ليعرف قيمتنا ويشكر الله علينا..

وأما الشريط الثاني ففيه كل ما نطق من شعر، ونحن نسمع ونرى وكل ما همس به أو فكر فيه، وأنتم لا تعلمون عنه إلا ما ظهر منه ليعلم أننا معه نسمع ونرى وكل شيء عندنا محفوظ ومكتوب.

استمرت البكرتان في الانفراط زمنًا لا ندري كم كان بالساعات بالأيام بالأعوام وأنا وهو وسعيدة في ذهول، ومع آخر ورقة صرخت رد الأوراق ردها أرجوك قهقه ضرسي وهو يقول:

‏لا تخف ستطوف الدنيا كلها وتمر على كل الخلق والأماكن وتمر على (ضرس جدك الشاعر الفرزدق)- رحمه الله – وتعود إليك.

‏خاط الطبيب الجرح الكبير وأعطاني التعليمات المعتادة بقي النزيف ثلاثة أيام بلياليهن لم يتوقف، واليوم أنا بحمد الله بخير، وأبحث عن الأوراق فمن وجد شيئًا منها فليكرمني بها أكرمكم الله وحماكم من كل داء وبلاء” .. انتهى..

لم تكن آلام الشاعر حسن الزهراني التي تعرَّض لها على إثر خلع “ضرس العقل” آلامًا عابرة كالتي تمر بنا أحيانًا بسبب الحمى مثلًا أو أي عارض صحي يعترينا، بل استطاع أن يوظفها في “تغريدة”، ويخرج لنا هذا السرد الروائي المقتضب الجميل الذي يحمل خلف سطوره القليل من كثير.. الحاسة الشاعرية لدى الشاعر حسن الزهراني بلغة وسطية، جمعت بين الفصحى والدارجة وبعد أن عشنا مع هذه السطور التي كتب تفاصيلها الألم، فنحن بحاجة إلى أن يخلع كل يوم ضرسًا وسنًا لنعيش معه مثل هذا السرد الجميل.

‏قرأت في “روايا الراوي” (السفر رقم صفر) وأعدتُ قراءتها مرة أخرى، ووجدت أنه مرجح ذائقتنا بين حروفها الشاعرية، وتفاصيل سطورها الروائية التي جمع فيها العناصر القصصية بتفاعل وتناغم بداية بالفكرة ومن ثم المكان والزمان والشخصيات والحوار والأحداث، تدافعت وتصاعدت بتسلسل عجيب ومترابط بمزجه بين الجدِ والهزل لنصل معه للعقدة ومن ثم الحل أو الهدف حسبما أرى، ولعل أشد ما أذهلني هو: “الإشارات والرمزية وتبادل الحواس” أو تراسلها، وهو فن بلاغي يطمح إلى جعل الشعر أو الكتابة القصصية أو السرد أكثر دهشة وقبولًا عند المتلقي، وذلك بتغيير وظيفة حاسة “ما” بوظيفة حاسة أخرى مثل: “إن تسمع بعينيك، أو بلسانك، أو بيدك، وترى بلسانك، أو فمك، أو يدك، وتتذوق بعينيك، أو أذنك، أو يديك،…. وهكذا ..!!

لا يمكن من الناحية العملية أو الواقعية جعل هذا الأمر ممكنًا؛ إذ لا يمكنك في الواقع أن تتحسس اللون بيديك دون أن تراه ماثلًا أمامك، ولا يمكنك أن تشم رائحة العطر بأذنك، إلَّا إنها إحدى جماليات البلاغة التي يلجأ لها الشاعر في شعره وهذا الأمر يحدث كثيرًا – وإلى حد ما يحدث أيضًا في الكتابات السردية – ومن خلال ذلك تتشكل الصورة الشعرية، فتتحول المحسوسات إلى مشاعر في الذائقة الشعرية للمبدع والمتلقي.!

وقد ينتج عن هذا التبادل، أو التراسل، عند الشاعر أو الكاتب ميدانًا خصبًا في قول ما يريد بهذا الشأن أو ذاك كما نتج عن خلع “ضرس” الشاعر حسن الزهراني؛ فرأينا كيف استخدم الحواس حسب ذائقته الشعرية، وحسب صوره الخيالية التي أخرجت لنا هذا النص الخصب الذي نتج عنه ما لا يمكن إنتاجه في الواقع.

حيث استعمل بعض الحواس للتعبير عما قامت به من أفعال غير التي من واجبها القيام به، كما تستعمل حاسة الذوق، وهي من اختصاص اللسان للتعبير عن الألم، في مواطن كثيرة، كما وردت في القرآن الكريم : (ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ)(يونس: 52).

وقد جاء ذلك واضحًا وجليًا عند الشاعر جرير الذي جعل لحاسة النظر دورًا في القتل بدلًا من الشوف إذ قال:

إن العيون التي في طرفها حورٌ

قتلننا. . . ! ولم يحـــيين قتلانا

إذ جعل فعل العيون القتل بسبب ما فيها من حور…!

وهذا ما وجدناه عند الشاعر حسن الزهراني الذي جعل “ضرسه” المخلوع من منصبه شخصية رئيسية تتكلم وتبوح عوضًا عن وظيفته الحقيقية وهي قضم الطعام أو طحنه، بل حوله إلى بطل من أبطال “روايا الراوي”، وجعله شاهدًا تاريخيًا يسردُ سجلات ما دخل من طعام إلى فيهِ، وما لفظ من قولٍ، وهذا جمالٌ آخر من جماليات الكتابة وهو “الرمزية” فكأنما رمز إلى قوله تعالى: (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)(ق: 18)، وقوله تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ) (الانفطار: 11، 12)، وهناك إشارات أخرى ورمزية إلى حديث: (ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام).

وإذا ما انتقلنا إلى جانبٍ آخر من جوانب الإبداع في هذا النص لوجدنا كثيرًا من الشواهد كـ”الدقة في استخدام الألفاظ “، وأمثلة ذلك كثيرة كقوله: “سقطت من عيني كم دمعة”؛ فسقوط الدمع يختلف عن ذرف الدموع إذا يمكن أن تذرف الدموع بسبب خلل “ما” في وظيفة العين كالتحسس من الهواء، و”شكة الإبرة ” أدق من قولنا “وخزة إبرة” فالوخز بالإبرة يكون لحث منطقة من مناطق الجسم فاقدة الإحساس، وقد يكون الوخز بالإبر أو غيرها من الأدوات الحادة كالسكين أو الرمح على سبيل المثال، وكذلك “غرز إبرة ” يختلف عن “شكة إبرة” ، حيث إن غرز الإبرة أدق ما يكون استخدامها في الحياكة أو الخياطة، والشواهد كثيرة على جماليات النص ولكن لا يتسع المقام لذكرها..!!

شكرًا للشاعر حسن الزهراني على هذا الإبداع والإمتاع حتى في آلامه التي أخرجت لنا هذا السرد الجميل من شخص لا ينبع منه إلَّا الجمال شعرًا ونثرًا..!

** حسن بن محمد الزهراني هو شاعرٌ غني عن التعريف يشغل رئيس النادي الأدبي بالباحة منذ عام 2010، وكُرّم عام 2023 في مهرجان الشارقة للشعر العربي باختياره “شخصية مهرجان الشارقة للشعر العربي 19″، كما تم اختياره ضمن “معجم البابطين” للشعراء العرب المعاصرين، له عدد من الأعمال والمؤلفات الشعرية الإبداعية، والتي حظيت بالدراسات النقدية، وترجمت بعض نصوصه الشعرية إلى اللغة الإنجليزية.

جمعان البشيري

محرر صحفي - جدة

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. تحية لك أ جمعان البشيري ولهذا الرائع بحتري الباحة حسن الزهراني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى