إن من محاسن الشريعة الإسلامية ومكارمها الصدقة الجارية، وقد حمل قدماء العلماء المسلمين الصدقة الجارية على أنها تعني “الوقف”، وصنفوا الوقف ذاته في باب “مكارم الأخلاق”، ونظرة الإسلام للأخلاق نظرة علمية، تترجمها التصرفات الحسنة وغرس المثل والقيم الإسلامية، وأعلي مراتب التصرف الحسن هو جلب المنفعة للآخرين، ومن أعظم المنافع وأعلاها منزلة عند الله نشر العلم بين الناس وإزاحة الجهل.
لذلك كان المتصدقون بالأوقاف هم رعاة العلم ونشر المعرفة؛ فقد أسهمت الأوقاف في بناء المدارس والمكتبات والكليات والمعاهد والجامعات.
وعلى الرغم من أن العالم الإسلامي عرف دور الوقف العلمي منذ قرون مضت في دعم التعليم بأنواعه وخاصة التعليم الجامعي، إلا أنه لم يستمر طويلًا، في حين حافظت الدول الغربية على تنمية الأوقاف التعليمية لديها حتى أصبحت جامعاتها ومعاهدها تعتمد عليه بشكل أساسي كأحد أهم مواردها الذاتية؛ وبذلك ظهر ما يسمي بالجامعات الوقفية في الغرب التي تعتمد على الهبات والأصول التي يتبرع بها الأفراد والأسر للجامعات حتى تتمكن من أداء دورها علي أكمل وجه؛ وبالنظر إلى الجامعات الوقفية نجد أنها تتصدر أفضل الجامعات على مستوي العالم.
فجامعة هارفرد على سبيل المثال، التي قام بتأسيسها “جون هارفرد” في عام 1336م، تعتبر من أقدم الجامعات الوقفية الأمريكية، بدأت باثنى عشر طالبًا فقط، ومن تلك البداية المتواضعة تطورت عبر مسيرة طويلة حتى أصبحت اليوم أكبر جامعة وقفية في العالم وبلغت قيمة أصولها الموقوفة عليها أكثر من 36 مليار دولار، وميزانيتها التشغيلية السنوية بلغت 28 مليار دولار، وهذا الرقم يفوق مجمل ميزانيات الجامعات العربية في وقتنا الحاضر.
إن الجامعات الوقفية لم تغتنِ بفضل المنح الدراسية وغيرها من الهبات فحسب، بل اغتنت فوق ذلك بفضل ارتفاع قيمة الضياع التي حبست عليها. ولأهمية الوقف على هذا النحو في بعض الجامعات الغربية، أصبح أحد معايير تقييم المرشحين لرئاستها هو “قدرته على تحصيل أوقاف جديدة لصالح الجامعة”.
وكنوع من الوفاء نجد أن الجامعات العالمية، لا تزال تحمل أسماء مؤسسيها الذين تبرعوا بأموالهم وأوقافهم، وخصصوا ريعها للإنفاق عليها، مثل (ييل)، و(ستانفورد)، و(الكلية الجامعية بلندن)، و(أكسفورد) و(كامبردج) و(المعهد السويسري للتكنولوجيا) والتجربة الأسترالية (جامعة ملبورن)، ومن التجارب الآسيوية جامعة (ماليزيا للعلوم والتكنولوجيا).
وبدون أدني شك فإن مستقبل الجامعات التي تعتمد على الدعم الحكومي(الميزانية) في ظل الدورات الاقتصادية في خطر، فيجب عليها سرعة العمل على إيجاد مصادر مالية بديلة حتى تتمكن من تخريج كفاءات متميزة تساهم في بناء الوطن، ومن جانب آخر يجب على الجامعات الاهتمام بنشر ثقافة (فقه الوقف) بين أفراد المجتمع من خلال تدريس التخصصات المرتبطة به، والتي تسهم في تحقيق التنمية العلمية.
0