المقالات

قمة القرارات التاريخية

يتجه الوضع في “غزة” نحو المزيد من التعقيد وصعوبة التوصل إلى حلول عملية تكفل إيقاف الحرب، وبالذات في ضوء الدعم الأمريكي والأوروبي المفتوح لإسرائيل على المستوى العسكري والسياسي والنفسي بعد (تصنيفها) حماس منظمة إرهابية، وتعهدها بالقضاء على المقاومة بكل قواها وتشكيلاتها السياسية والعسكرية والأمنية، والقضاء على مقومات بقائها كقوة مقاومة وأداة بيد القوى الإقليمية ذات الأطماع التوسعية في المنطقة، أو ورقة في يد القوى الدولية المتصارعة في الإقليم وخارجه.. على حد تعبيرها.

يحدث هذا في الوقت الذي تتضاءل فرص التوصل إلى “تفاهمات” مع الإسرائيليين والأمريكيين بصورة أكثر تحديدًا على إيقاف الحرب على غزة، على المديين الطويل أو المتوسط، والاكتفاء (فقط) بالحديث عن (هُدن قصيرة الأجل) لأغراض إنسانية تخدم إسرائيل، والداعمين لها أكثر من خدمتها لأبناء فلسطين ومصابيهم وضحاياهم مثل إخراج الأجانب من غزة، وترحيلهم إلى خارجها عبر معبر رفح المصرّح له حتى الآن تحت مراقبة إسرائيلية كاملة وأذونات محددة.
وذلك يعني باختصار شديد أن لا حديث على الإطلاق عن عودة الأمور إلى حالتها الطبيعية في غزة، وأن ما يحدث ويجري الآن هو استمرار تدفق البوارج الحربية الأمريكية وحاملات الطائرات المجهزة بكامل عدتها إلى سواحل المنطقة، وإحكام السيطرة على كامل منافذها لتحقيق ثلاثة أهداف حيوية هامة هي:
1/ الردع بكل أشكاله وصوره وألوانه؛ لمنع تدخل قُوَى أو أطراف أخرى.
2/ التدخل عند الحاجة؛ وبالذات في حالة تطوّر الحرب بدخول أطراف إقليمية أخرى تمثّل أدوات إيران في كل من لبنان والعراق وسوريا واليمن وغيرها.
3/ الدخول في مواجهة شرسة مع إيران في حالة تدخلها مباشرة في الحرب، أو أي طرف من داخل أو خارج الإقليم مثل روسيا والصين، وإن كان ذلك مستبعدًا في ظل معظم الحسابات وأكثرها التصاقًا بالحدث.
وهذا يعني أن الخيارات المطروحة الآن أمام الفلسطينيين وحماس -على وجه التحديد- هي -:
1/ الاستمرار في المقاومة وتحمل نتائجها عليهم وعلى قضيتهم الأساسية لاسترداد فلسطين وعودة اللاجئين ومسح إسرائيل من الوجود، وهو -كما نرى- في ظل المعطيات المتعاقبة على مدى التاريخ الطويل وتحديدًا منذ العام 1948م وحتى اليوم، لم يعد ممكنًا تحقيقها في ظل المتغيرات الدولية المختلفة، وبالتالي خسران المزيد من الأراضي، وتمكين العدو الإسرائيلي من المُضي في حرب إبادة طويلة يتغاضى عنها المجتمع الدولي مع كل أسف بل ويتواطأ لصالح إسرائيل وما يعتبره مشروعية بقائها.
2/ المخاطرة بتوسيع دوائر الحرب بدخول أطراف متعددة وتلك ستكون بمثابة عملية انتحارية غير محمودة العواقب وتندرج تحت مفهوم “شرق أوسط جديد” قَلّ أن نجني من ورائها -نحن العرب- مكاسب حقيقية، بالذات في ظل الصراع الأمريكي الروسي الحالي من جهة، والأمريكي الصيني من جهة ثانية، وهي الأطراف الثلاثة المشغولة بالحرب في أوكرانيا من جهة، وبصراع تعدد القوى الرامي إلى الحد من الهيمنة الأمريكية في العالم.
3/ الأخذ بالخيار المطروح بقوة وهو حل الدولتين وهو خيار واقعي هدفه الرئيسي هو إيقاف استنزاف الأمة، وسحق شعب فلسطين وتصفية قضيته، والتوجه بكامل قوى الأمة نحو إعادة بناء الدولة الفلسطينية، والحفاظ على ما تبقى من مقدرات شعبه الوفي لقضيته وعدم تمكين العدو وأعوانه من المضي في سياسة إقامة إسرائيل الكبرى ومخططها الوجودي والعنصري وقطع الطريق عليهم للوصول إلى هذا الهدف باستغلال كل عمل تقوم به المقاومة لتأكيد حقها في الوجود؛ ولكسب المزيد من الدعم الدولي والغطاء لأعمالها الإجرامية ضد الشعب الفلسطيني، والإجهاز على ما تبقى له في هذا الوجود.

وإزاء هذا الوضع المعقد للغاية، والدقيق إلى أبعد الحدود، فإن المملكة العربية السعودية، وبإدراك منها لواجبها التاريخي ومكانتها الروحية في العالمين العربي والإسلامي بل وفي كل العالم، وبقراءتها الواعية لما يحدث في الإقليم وخارجه.. لم تتردد في الدعوة لعقد قمة عربية هامة للغاية في الحادي عشر من شهر فبراير الحالي 2023 الموافق ليوم السبت السابع والعشرين من شهر ربيع الثاني في الرياض، واتخاذ قرارات تاريخية هامة هدفها الأول والأخير هو توحيد الموقف العربي لدعم القضية الفلسطينية وتأكيد حق الشعب الفلسطيني في تحقيق دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، ووضع حد نهائي للمجازر الإسرائيلية الفادحة بحق الشعب الفلسطيني في الوجود وفي العيش الآمن، ووضع حد لحروب الإبادة والتوسع على حسابه، والحفاظ على مقدرات الأمة، والتوجه نحو السلام والأمن والاستقرار وتحقيق المزيد من التنمية والتطوير لما فيه خير لبلداننا وشعوبنا.

وانطلاقًا من كل ذلك فإن دعوة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز للقادة إلى هذه القمة الإسلامية الاستثنائية ومتابعة سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان واتصالاته بكافة الأطراف العربية والإقليمية والدولية تكون الرياض بذلك وما تزال تبذل كل الجهد في سبيل نصرة شعب فلسطين الأبيّ وقضيته العادلة، جعلت المجتمع الدولي أمام مسؤوليته لوضع حد لحرب الإبادة الراهنة في غزة؛ وذلك بعملها في إطار قرارات الأمم المتحدة وأحكامها الملزمة لجميع الأطراف، وفي مقدمتها قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة رقم (181) الصادر في شهر نوفمبر من العام 1967م، بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية وذلك بموافقة (23) دولة ورفض (13) دولة وامتناع (10) دول عن التصويت.

وبالتأكيد فإن الوقفة العربية والإسلامية القوية المنتظرة في هذا الوقت بالذات سوف تحبط المخططات والأطماع الإسرائيلية التوسعية، وتبعد المنطقة عن المزيد من الأخطار، وتبعد عنها هذه الأرتال الضخمة من الحشود ومبررات الاستيلاء على مقدراتها، وفرض الوصاية عليها واستبعاد قيام حرب كونية خطيرة هي نتاج صراع محتدم بين القوى الكبرى.

ونحن هنا في المملكة العربية السعودية نعوّل كثيرًا على توحيد مواقف الأمة العربية بمواجهة الأخطار والتحديات التي تهدد الجميع، ونعتقد -بكل إخلاص- بأن الوقت قد حان لوضع العالم كله أمام مسؤوليته وعدم إعطاء إسرائيل فُرصًا إضافية للتمدد على حساب الجميع، بدليل توسيع دائرة عدوانها على الضفة الغربية وليس على غزة وحدها مما يكشف عن “نواياها الخبيثة” ومُضيها في مخططها الخطير إلى ما لا نهاية.
ولدينا ثقة كبير في أن أمتنا العربية في مستوى تحمّل مسؤوليتها الآن أكثر من أي وقت مضى لاتخاذ قرار تاريخي ملزم للأسرة الدولية قبل إلزامه للعدو الإسرائيلي الغاشم، ومن يناصرونه على حساب حقوق أمتنا المشروعة.

ذلك أن إسرائيل سوف تستغل الوضع الراهن بما في ذلك الدعم السياسي والعسكري والمعنوي الذي تجده من أنصارها بتوسيع دوائر حرب الإبادة الراهنة ليس فقط ضد غزة وسكانها الأبرياء وكذلك أراضي الضفة الغربية وأبنائها، وإنما لمواصلة تحرشاتها وعدوانها على الجنوب اللبناني الآمن، وتوسعاتها المرسومة وحروبها واعتداءاتها المتوقفة على كل من العراق وسورية وغيرها، بحجة الدفاع عن النفس؛ لأنها تخاف من أي عملية سلام، وتتجنب أي حديث فيها، بل وتعد نفسها لحرب إبادة أوسع وأشمل؛ لأنها دولة عدوان ولأنها تريد أن تقول للإسرائيليين أن إسرائيل قادرة على الاستمرار والتوسع على حساب الجميع، وليس على حساب الأراضي الفلسطينية فحسب، ولأنها تريد أن تستغل الدعم الدولي الذي حصلت عليه لتبرير ارتكابها لمجازرها المتواصلة.

ولكننا كعرب.. وحين ترفع مجددًا راية الإسلام والاستقرار في المنطقة، فإننا نفقد إسرائيل كل الحجج والمبررات لاستمرار مجازرها في الضفة وقطاع غزة ونضعها -في نفس الوقت- في مواجهة مع المجتمع الدولي، هي وبعض الدول المتخاذلة، والداعمة لها، ونُفسد جميع الخطط والمؤامرات التوسعية على حساب الجميع.
وبكل تأكيد.. فإن حساب المكسب والخسارة في هذه الحالة سيتم لصالحنا كدول وشعوب، بل لصالح العالم كله الذي ينشد السلام وتحقيق الازدهار في الأرض بعد الدمار والحروب. وهذا يعني أننا نقف أمام حدث تاريخي مهم، ستؤكد معه أمتنا أنها قادرة على مواجهة الأخطاء والمؤمرات ونتائج حروب الاستدراج الخاسرة على مدى التاريخ الطويل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى