قارس هو كما عهدته، يتسلل كطارق فضيلة سراً وجهراً نحو شعورنا وذكرياتنا وتفاصيلها الموغلة في ملامحنا وإن تقادمت بها السنوات، أعلن بزمهريره ميلاد قصيدة تحت أنقاض حرب باردة ولدت من رحم الصقيع علمني شتاؤك أن أتذكر معطفك الأسود الداكن الذي كانت والدتي تخيطه بإبرتها كي يضيق على جسد ابنها النحيل هناك فوق رفوف أمل متناقضة متربة تحتضن كل سنواتي وتختزل كل أوراقي ومذكراتي ..
أسمعنا حكايتك ورواياتك .. كيف جمعت كل فصول الحياة حول موقد نار أشعلها الحب فبعثتها أنفاساً وعشقاً وأنشودة تعانق الضباب خيطاً من أحلام الهوى والكرى .. و”ودهراً تولّى يا بثين يعود” الشتاء الأكبر سناً بين الفصول الأربعة ؛ فلذا تجده قاسياً حاداً وشاعراً طويلاً وسيماً يكتب قصائده على نوافذ الحسناوات ..
الشتاء عاشق مجنون تبقى مشكاته ساهرة سامرة فاصلة بين دفء القرية وبرد المدينة ، وهو فنان مرهف يسافر بريشته لكل الأمكنة التي لا نستطيع الوصول إليها !
تستطيل الأغنيات بين لياليه خيوطاً من اللحاف التهامي وبيوتاً من القط الجنوبي تدفئ سمارها قبل أن ينفض سمرهم وسامرهم هكذا عرفتهم من قديم ..
الشتاء الأدخنة المتصاعدة والقطط المشرّدة .. تصبح حكايات الجدات أهزوجة يشدو بها الأطفال في فجر السواقي والحقول وغناء الطيور .. الشتاء أكثر برودة في الغربة ، وفنجان القهوة وطن تسافر إليه كل الطيور المهاجرة ..الصحف الناعسة أكثر جمالا وقراءة وفيروز تسكب فينا لذّة الشتاء رجعت الشتوية .. رجعت الشتوية” ، وتختلس كل نظرتنا الباردة كي تعيد فينا ثانيةً حروف الشتاء :
تلج تلج عم بتشتي الدنيا تلج
والنجمات حيرانين
وزهور الطرقات بردانين ..
الشتاء رائع إذا ولد في كفوف اللقاء ، ويكون منّفى إذا كان كموج البحر في ليل امرئ القيس ..
تتعثر الحسناء في أبجديات مولود جميل ولد في الشتاء وتزداد العربية حسناً كلما زادت حزمات الحطب وأوقدت قنديل قلبها لقمر الشتاء .. السفن ترسو في سواحل من حب وطبيعة من سحر .. لا يمكن للذاكرة إسقاط تهامة والجنوب والساحل وإن تعدّدت الرحلات فالتاريخ تدثّر بلحافه هناك والجغرافيا اكتحلت من عيون الشمس أهدابا للعابرين ، وكأنّ الذاكرة تناوش طفولة غزلها الشتاء وقريتي الفاتنة تنام في أحضان الجبال !
أقداح من حليب الدكان هي من تحملنا للمدرسة والسيل وحده من يعيدنا.. صفيرالرعيان يقودني حين تأوي أغنامنا لمسكنها مغرباً ورائحة زيت القطران يثري ويغري ويبكي ذاكرة المكان .. جهجهة ”الحميان” ؛ خوفاً على حبات القمح و”خيال المآتة” تتضوع جوعاً و”سهوة” بلَلها الندى وحكواتي قريتي في دكانه العتيق مازال يبحث عن أغنية الشتاء .
ومضة :
الشتاء وطن نستجديه طولا ومقاما أكثر حين نشعر بأن قامته بدأت في السقوط والرحيل ..” وكان الوعد أن تأتي شتاء” هكذا يقول نزار قباني .