المقالات

الرأي العام بين الإقلاع والهبوط التدريجي

قال صاحبي: ما رأيك في مقولة: “الرأي العام جسد مارد في عقل طفل” وهل الرأي سهل الانقياد، لا يفكر، لا يُحلل، وهل وسائل الاتصال المتعددة تصنع رأيًا عامًا حقيقيًا أو زائفًا، كيف يتم التأثير عليه، وكيف يصل إلى الذروة، ومتى يهبط منها؟
تُمثل ظاهرة الرأي العام الحديثة امتدادًا لما كان سائدًا في الحضارات الإنسانية القديمة، والتي عرفتها شعوب تلك الحقبة الزمنية بما يمكن تسميته بالاتفاق العام، أو الاتجاه السائد، أو صوت الشعب، أو الرأي الجماهيري، كما كان يطلق عليه المفكرون والسياسيون في المدن الإغريقية القديمة، وكما كان لرأي الأغلبية الحكم النهائي آنذاك أصبح اليوم أحد مظاهر التقدم الحضاري، وتطورت هذه الظاهرة بطريقة تدريجية، حتى وصلت إلى ما هي عليه في العصر الحالي؛ حيث تزايدت أهميته وفعاليته في صناعة السياسات وتغييرها أو تعديلها، ولا يمكن بأي حال من الأحوال اليوم، تجاهل أهمية الرأي العام على اختلاف أنواعه.

وتُمثل وسائل الاتصال المتعددة أهمية كبيرة في التأثير على اتجاهات الجمهور وتحديد مواقفه إزاء مختلف القضايا التي تدور حوله؛ إذ تسهم هذه الوسائل إلى حد كبير في تشكيل الرأي العام وتحديد اتجاهاته، وصناعة تصوره عما يجري حوله في العالم، فالقنوات التلفزيونية الفضائية ومن خلال برامجها قادرة على التأثير في تشكيل اتجاهات الرأي العام؛ بناءً على ما تحمله من عروض ومنتجات فكرية متنوعة.
هذا يعني أن الرسائل التي توجهها وسائل الاتصال للمتلقي تقوم بدور مهم في تشكيل وعيه تجاه العديد من القضايا والموضوعات في مختلف جوانب الحياة بما يسهم في تدعيم وصياغة رأي عام تجاه قضية معينة، وفي الفترات الأخيرة أخذت العلاقة بين هذه الوسائل والرأي العام في التطور؛ فأصبح الارتباط بينهما وثيقًا جدًا، وأصبحا يشتركان في أن كلًا منهما مقياس للآخر.
وبما أن وسائل الإعلام والاتصال تخضع بالضرورة لسياسات الدول والمنظمات التي تتبع لها، فإنها تحاول جاهدةً أن تقدم الأحداث بحسب وجهة نظر من يملكها، أو يمولها، وبفضل التأثير الهائل لأدوات الاتصال الحديث في صياغة الرأي العام وتوجيهه، بات الاهتمام فيها على أعلى درجة مما كان عليه سابقًا، وباتت جزءًا بارزًا في أي صراع دولي أو محلي، سياسي أو فكري أو تجاري، وهكذا تسابقت الدول والشركات الكبرى على بناء شبكات إعلامية ضخمة للتحكم بأفكار الناس وميولهم وتوجهاتهم بدعاوى “كشف الحقيقة” و”الموضوعية” و”الرأي والرأي الآخر”.
وهنالك عدة أساليب وتكتيكات تعتمدها وسائل الإعلام في صناعة الرأي العام وتوجيهه والتلاعب به منها:
استدراج الرأي العام: تحت غطاء من الشعارات البراقة مثل: حقوق الإنسان والعالم الحر والديموقراطية وحقوق الأقليات وغيرها، تقوم وسائل الإعلام باستدراج الرأي العام لاتخاذ مواقف سياسية قد تكون مخالفة أو متناقضة لما كان يعتقده سابقًا في ظل طوفان هذه المفاهيم والشعارات البراقة؛ وبهذا تبدأ وسائل الاتصال بصناعة مسار الرأي العام، ثم دفعه لاعتناق السلوك الذي تريده، وتسعى جاهدة لتصوير هذا السلوك بأنه السلوك المنتظر، وبأن من يخالفه عدو لبلده ومجتمعه، ثم تبدأ بالصعود الممنهج بوتيرة رسائلها لشحن الجمهور حتى تؤثر على من لديه فكر أو سلوك مناهض لما تقوم به، وتستمر بالتصعيد حتى تخرب الأوطان بأيدي أهلها المخدرين إعلاميًا، والمشحونين عاطفيًا، ثم ما تلبث أن تغادرهم، وتتركهم يواجهون وبلدهم قدرهم.
لكن هذا الرأي العام يبدأ في التفكك والانحسار، وهذه من أبرز صفاته، وهذا ما عبر عنه الزميل العزيز الأستاذ الدكتور علي بن شويل القرني، أستاذ الإعلام في جامعة الملك خالد، وعضو مجلس الشورى بنظريته “الهبوط التدريجي للرأي العام” هذا الهبوط مرتبط بعدة متغيرات منها الإعلام، والاهتمام، وميلاد أزمات جديدة، ودور قادة الرأي في المجتمع وغيرها، هذه النظرية التي أعلن عنها الدكتور علي في محاضرة نظمتها الجمعية العلاقات العامة والإعلان وأدارها رئيسها الأستاذ الدكتور عبد الرحمن النامي، واصفًا هذه الخطوة بالجريئة علميًا- وهي كذلك- متمنيًا أنها وضعت اللبنة الأولى لميلاد نظريات علمية في البيئة العربية.
واخيراً وبتطبيق ما سبق على الأزمة الأوكرانية، نرى أن الإعلام الغربي سعى لاستدراج الرأي العام، بتوظيف عدداً من المفردات حتى احتلت القضية الصدارة في وسائل الاتصال واضحت حديث العالم، حافظت الوسائل الاتصالية الموجهة من الغرب على بقاء القضية في هذا المستوى المستقر، لكن الرأي ونتيجة لاهتماماته المتعددة وتشبعه من الأزمة وغيرها من الاسباب بدأ يهبط تدريجياً اهتمامه بهذه القضية.
قلت لصاحبي:
من يمتلك المهنية والخبرة يملك مفاتيح التحكم في الرأي العام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى