لا تُعتبر فكرة إقامة دولة فلسطينية في سيناء فكرة جديدة، فهي تعود إلى عقود عدة، وكانت الفكرة في السابق إقامة دولة فلسطينية تشمل غزة وتستوعب اللاجئين الفلسطينيين، أما المتداول الآن فهي فكرة استيعاب أهالي غزة الذين تخطط إسرائيل إلى تهجيرهم إلى سيناء بعد قصفها المستمر لأكثر من شهر لمدن القطاع ومخيماته بما أسفر عن مقتل وجرح عشرات الآلاف من الأبرياء نصفهم من الأطفال.
ويواصل الجيش الإسرائيلي، توجيه الطلبات للفلسطينيين لإخلاء الجزء الشمالي من قطاع غزة والتوجه جنوبًا نحو منطقة رفح الحدودية مع مصر، وهو ما يُشير إلى محاولة فرض خيار التهجير الجماعي ودفع سكان قطاع غزة نحو سيناء. وروَّج الصحفي الإسرائيلي إيدي كوهين، لهذه الخطة، بقوله: “تسوية الفلسطينيين في سيناء مقابل إلغاء ديون مصر البالغة حوالى 165 مليار دولار”، وهوما يرفضه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بشدة. كما أن الفلسطينيين يرفضون كل الأفكار التي تتعلق بالوطن البديل، ويتشبثون بأرضهم وأرض الأجداد، ويرفضون التخلي عنها بأي شكل من الأشكال.
وتتداول الألسنة والأقلام منذ فترة، حتى قبل حرب غزة الخامسة الحديث حول موضوع سيناء كبديل للدولة الفلسطينية ضمن حل الدولتين الذي ترفضه إسرائيل فيما تتأهب لضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية بدءًا من مستوطنة معاليم أدوميم وإعطاء ما تبقى من الأراضي حكمًا ذاتيًا. كما يأتي هذا الحديث في أعقاب تغريدة الوزير الإسرائيلي بلا حقيبة الدرزي أيوب قرا على تويتر التي قال فيها: إن هناك مشروع لإقامة دولة فلسطينية في قطاع غزة وسيناء التي تبلغ مساحتها أربعة أضعاف مساحة فلسطين.
تاريخيًا يذكر بعض المؤرخين أن سيناء معناها “الحجر”، بينما يذكر البعض الآخر أن اسمها في الهيروغليفية القديمة “توشريت” أي أرض الجدب والعراء. وقد ذكرت في القرآن الكريم: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ)– (المؤمنون: 20). وعرفت في التوراة باسم “حوريب”، أي الخراب، وذكرت في غير موضع باسمها الصريح: “في الشهر الثالث بعد خروج بني إسرائيل من أرض مصر، في ذلك اليوم جاءوا إلى برية سيناء. ارتحلوا من رفيديم وجاءوا إلى برية سيناء فنزلوا في البرية هناك نزل إسرائيل مقابل الجبل..” الخروج 19-1. والمتفق عليه أن اسم سيناء، مشتق من اسم الإله “سين” إله القمر في بابل القديمة حيث انتشرت عبادته في غرب آسيا وكان من بينها فلسطين (في أريحا)، ثم وفقوا بينه وبين الإله “تحوت” إله القمر المصري الذي كان له شأن عظيم في سيناء وكانت عبادته منتشرة فيها، ومن خلال نقوش “سرابيط الخادم” وعبد حتحور يتضح لنا أنه يُشار إليها أحيانًا بكلمة “بياوو” أي المناجم أو “بيا” فقط، أي “المنجم (باعتبارها أرض النحاس والفيروز). وفي المصادر المصرية الأخرى من عصر الدولة الحديثة يُشار إلي سيناء باسم “خاست مفكات”، وأحيانًا “دومفكات” أي “مدرجات الفيروز”.
وقد ظل الغموض يكتنف تاريخ سيناء القديم حتى تمكن بتري عام 1905 من اكتشاف اثنى عشر نقشًا عرفت “بالنقوش السينائية”، عليها أبجدية لم تكن معروفة في ذلك الوقت، وفي بعض حروفها تشابه كبير مع الهيروغليفية، وظلت هذه النقوش لغزًا حتى عام 1917 حين تمكن عالم المصريات جاردينار من فك رموز هذه الكتابة التي أوضح أنها لم تكن سوى كتابات كنعانية من القرن الخامس عشر ق. م من بقايا الحضارة الكنعانية القديمة في سيناء.
وسيناء التي نعرفها الآن: هي الأرض التي يوجد بها الوادي المقدس طوى، والتي كلم الله فيها موسى -عليه السلام-، وتجلى فيها لجبل الطور “فأصبح دكًا وخر موسى صعقًا”، وهو نفس الجبل الذي تلقى موسى من جانبه الأيمن اللوائح “التوراة”.
وقد اهتمت أسرة محمد علي بسيناء، خاصة إداريًا، وأيضًا بإقامة الطرق لتسهيل انتقال الحجاج إلى مكة المكرمة. واحتلت إسرائيل سيناء مرتين، الأولى خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وانسحبت منها (في 6/3/1957)، هي ومدن القنال بعد الإنذار الروسي الشهير (إنذار بولجانين) وموقف الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت أيزنهاور الصارم الرافض لهذا العدوان، ولكن تلك الحرب أدت إلى نشر قوات طوارئ دولية في سيناء، وفي خليج العقبة لضمان حرية المرور البحري والجوي لإسرائيل في تلك المنطقة، بما يعني أن إسرائيل حققت مكسبًا كبيرًا من هذا العدوان.
أما المرة الثانية التي احتلت فيها إسرائيل سيناء، فكانت في حرب يونيو 67، حيث أقامت فيها 18 مستوطنة، وانسحبت منها عام 1982، وقامت خلال فترة الاحتلال باستثمار واستغلال حقول النفط فيها.
وفي المرتين جاء احتلال سيناء بعد سيطرة إسرائيل على قطاع غزة، وهو ما يؤكد البُعد الإستراتيجي للقطاع بالنسبة للأمن القومي المصري وموضوع سيناء مع قطاع غزة كدولة بديلة للفلسطينيين ليس جديدًا، فقد سبق الحديث عنه عام 2012 في عهد الرئيس مرسي عندما سافر وفد من جماعة الإخوان المسلمين إلى واشنطن، وطلب منهم مسؤولون في البيت الأبيض أن “تتنازل مصر عن ثلث سيناء لغزة في عملية من مرحلتين، تمتد من أربع إلى خمس سنوات”. ووعد الأمريكيون، بـ”إنشاء دولة فلسطينية ودعمها بالكامل” في سيناء، بما في ذلك إنشاء موانئ بحرية ومطار، وحثوا جماعة الإخوان على تهيئة الرأي العام المصري للصفقة، “إلا إن الإخوان رحلوا في يونيو 2013”. وقد طرحت الفكرة في الأساس كمشروع أمريكي في عهد الرئيس دوايت أيزنهاوز. ففي عام 1955م اقترح وزير خارجيته “دالاس” توطين اللاجئين الفلسطينيين في صحراء سيناء بعد استصلاح المنطقة وتطويرها اقتصاديًا، وقد قُوبل ذلك المشروع بمظاهرات صاخبة شهدها قطاع غزة في 28/2/1955م واستمرت ثلاثة أيام متتالية، ويقول أسامة عامر في (كتابه شيطنة الفلسطينيين) إنه في اليوم الثالث للانتفاضة، طلب حاكم غزة الإداري البكباشي (المقدم) سعد حمزة إلى المنتفضين إرسال لجنة تمثلهم للقائه، وقد ضمت هذه اللجنة ثلاثة أعضاء هم: معين بسيسو (عن الحزب الشيوعي)، وفتحي البلعاوي (عن الإخوان)، وجمال الصوراني (عن المستقلين)، وقدمت اللجنة مطالبها إلى البكباشي حمزة، وفي مقدمتها إلغاء مشروع سيناء، وإشاعة الحريات في غزة، وتسليحه، وتحصينه، وقد وافق الرئيس جمال عبد الناصر على مطالب اللجنة عصر اليوم نفسه.
وقد لعبت إسرائيل- تحديدًا في العام 1953- دورًا خفيًا في بلورة هذا المشروع من خلال مباجثات أجريت بين الولايات المتحدة الأمريكية والحكومة المصرية ومندوبي وكالة الغوث، حيث تم خلال تلك المباحثات طرح مشروع مفصل لتوطين لاجئي قطاع غزة في صحراء سيناء على مساحة 250 ألف فدان بسيناء، وظلت الفكرة سرًا، حتى استطاع الشيوعيون والاشتراكيون في فلسطين كشف تفاصيل الاتفاق، حينما حصلوا على تقارير من وكالة الغوث باللغة الإنجليزية تم ترجمتها في عام 1955، باستحالة عيش اللاجئين في هذه الأرض المخصصة لهم في سيناء، وتم إجهاض الفكرة بعد الضغط الشعبي المصري والفلسطيني.
وسيناء لم تكن يومًا بمعزل عن الفكر الصهيوني، ليس فقط من زاوية طرح فكرة الوطن الفلسطيني البديل على أرضها، وإنما أيضًا من جانب طرحها قبل ذلك ببضعة عقود كوطن قومي لليهود عندما كان هيرتزل يبحث عن وطن لليهود عبر العالم من الأرجنتين حتى كينيا بعد أن بدا له تعذر إقامة هذا الوطن في فلسطين. ويقول د. رفيق شاكر النتشة حول فكرة إقامة وطن لليهود في سيناء: (كتابه: الاستعمار وفلسطين- إسرائيل مشروع استعماري): “في سنة 1889 بدأت مفاوضات هيرتزل حول إسكان اليهود في شبه جزيرة سيناء على أن يقيم اليهود فيها حكمًا ذاتيًا تحت الإشراف البريطاني، وقد وافق وزير المستعمرات على الفكرة من حيث المبدأ وانضم إليه زميله لورد لاندسون وزير الخارجية؛ لأن هذا المشروع من شأنه عزل مصر عن غرب آسيا”. ولا تخفى الأطماع الصهيونية في سيناء من خلال ما سبق، إذ إن تبنيها لفكرة دولة فلسطينية في القطاع وسيناء يعكس أطماعها في ضم هذه الدولة مستقبلاً فيما لو أقيمت بالفعل.
وطرح المشروع مرة أخرى في عهد الرئيس مبارك، تحت اسم “مشروع آلون” – رئيس جهاز المخابرات السابق-، أو “مشروع غزة الكبرى”، والذي نص على اقتطاع 30 كيلو مترًا من داخل سيناء، على أن تأخذ مصر أرضًا بديلة عبر أراضي النقب، يربط مصر بالأردن، ويكون تحت سيطرة مصر، مع تقديم حوافز اقتصادية لها، ولكن الرئيس الأسبق حسني مبارك رفض.
وأعيد طرح الفكرة، أو المشروع، عام 2004 من قبل الجنرال جيورا آيلند، رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي في ذلك الوقت، والرئيس السابق كذلك لقسم التخطيط في جيش الاحتلال، وتمحورت هذه المرة حول تبادل الأراضي بين أطراف النزاع. ونصت الخطة حينذاك على “نقل مساحته 720 كيلومتر مربع من أراضي سيناء إلى الفلسطينيين، بما فيها 24 كيلومترًا مربعًا على طول ساحل البحر المتوسط، وهو ما يعني أن مساحة قطاع غزة ستتضاعف إلى ثلاثة أضعافها، مقابل أخذ إسرائيل الضفة الغربية بأكملها”. والتفاصيل أوردها الباحث أحمد عبد التواب في بحثه في 15 فبراير(2017) بعنوان “دولة فلسطينية في سيناء. المخطط الإسرائيلي الذي يطارد مصر منذ 64 عامًا”. وفي أغسطس 2014، نشرت صحيفة “هآرتس” العبرية وثيقة سرية تنص على إنشاء مطار دولي ومركز بحري لمدينة غزة في العريش على بعد 45 كيلومترًا من رفح.
بعد هذه البانوراما يطرح السؤال نفسه: هل يمكن لمشروع أو فكرة منح الفلسطينيين وطنًا بديلاً لهم يضم القطاع وجزءًا من سيناء أن يمرر بإرادة ودعم أمريكي – إسرائيلي؟.. الجواب يرسمه الشعبان المصري والفلسطيني بــ (لا) بطول المسافة بين رفح المصرية والقنطرة، وهو ما أكدته أيضًا الخارجية المصرية بنفي ما تداولته بعض وسائل الإعلام عن موافقة الرئيس السيسي على هكذا مشروع بما في ذلك مزاعم الوزير قرا، وقالت إنه لم تطرح فكرة كهذه أبدًا للنقاش “إذ إن لا أحد من العالم العربي سيقبل بها كما لن يقبل بها الشعب المصري أو الشعب الفلسطيني”. كما أن مثل هذا الطرح يدعو إلى السخرية لأن سيناء منذ أن أقدم العصور أرض مصرية في كل شبر من ترابها.
0