أرسل لي أحد الأصدقاء فيديو به موروث فني كويتي. يجتمع فيه حشد من الحضور في حلقات، ويكون أحدهم في منتصف الحلقة، ويقوم بحركات راقصة بينما هناك من يضربون بكفوفهم علي أزيار من فخار تحدث أنغامًا، ويقوم الجميع بالتصفيق في تواتر رتيب منظم. أرسلت لأخي محمد عبده أسئلة عن هذا الموروث ليفيدني عنه. فقال هذا من نوع النهمة، وهو غناء يواكب سير العمل في السفينة وفن مقصور على البحر والبحارة في سواحل الخليج العربي عمومًا، ومع أداء النهام هناك من يضرب عليَّ الجحال، وهي الأزيار الفخار، ومن ثم يلعبون البحارة والغواصون علي تلك الأنغام وهم علي ظهر البوم الذي هو نوع من سفن الغوص للبحث عن اللؤلؤ، وأضاف بمناسبة الحديث عن الغوص واللؤلؤ؛ فإن الكثير من تجار الخليج كانوا يعتمدون علي حيازته في تجارتهم، ولكن بعد أن ظهر اللؤلؤ الياباني. تراجعت تجارة اللؤلؤ الأصلي مما عرض الكثير منهم إلى خسارات فادحة. لقد ذكرني أخي محمد بواحدة من الأحلام المشروعة ولو أنها ليست مشرعة الأبواب لمن كان في حالنا؛ وذلك عن اللؤلؤ وما أدراك ما اللؤلؤ ولا تروحوا بعيدًا فالقصة وما فيها…. في ذات ليلة قال لي والدي إنه ذاهب إلى الكويت لزيارة عمي محمد الذي هاجر مع عمي إبراهيم إلى تلك الديار في الزمن الخلي. بينما عمي فريح قرر أن يبقى في القصيم أما الوالد فقد هاجر إلى الشام؛ حيث بقى فترة هناك ثم عاد إلى الوطن. قلت لأبي خذني معك قال أنت صغير سن والسفر مشقة (كان عمري حوالي عشر سنوات) فألححت عليه. فوافق وقال ترى بننطلق الليلة ما عندنا وقت. قلت له أبشر أنا جاهز. وفي نفسي قلت يا والدي وإيش عندي وأنت عارف البير وغطاه حتة ثوب غير الذي أرتديه وبشيله من على حبل الغسيل، وهو رطب وغيار داخلي.. وانطلقنا على ظهر شاحنة من مكة في اتجاه الكويت، ومررنا بعده هجر وقرى في رحلة شاقة، استغرقت عدة أيام ضاعت ويا الزحام بين تغاريز ودف لا تدف وأتربة متصاعدة، والذي يكح والذي يعطس. المهم في ذلك الوقت لم يقلقني كل ذلك أو يحبطني بل كنت في شوق لأرى الكويت التي كان يحكي عنها أنها متقدمة لوجستيًا وفنيًا والذي منه. وصلنا إلى الكويت بعد ياليل خبرني عن درب المعاناة. فعلًا في ذلك الوقت رأيت.. إن الكويت مختلفة ففيها لمسات حضارية واضحة طبعًا بالنسبة لمقارنتها في ذلك الوقت مع غيرها. واستقبلنا عمي محمد -رحمه الله- خير استقبال ولا زلت أتذكر طعم طبخه؛ وذلك التمن وسمك المسقوف وصلصة حارة. لقد كان طباخًا ماهرًا أو ربما تلذذت بطبخه؛ نتيجة أنا كنا في كثير من الأحيان لا نذق طعم المرق ناهيك عن الدسم والحمدلله، وكانت أجمل المحطات التي مرت عليَّ في تلك الرحلة أن السينما كانت متاحة في الكويت. أنا أتكلم عن أكثر من ستين عامًا خلت على الأقل بل تزد. فكنت أذهب إلى السينما وأدفع بالروبية التي كان يعطني هي عمي؛ حيث كانت هي العملة في ذلك الحين. ومن جم سعادتي بذهابي إلى السينما كنت أحتقظ بالتذاكر حتى أريها أخواتي وأصدقائي، وأثبت لهم أنني شاهدت الأفلام. ومن السينما كحلم كان يراودني إلى قمة الأحلام التفكير الدايم بتحسين الحال المادي. كنت سائرًا بالقرب من سوق الزل الذي كان عمي يملك أحد محلاته؛ فوجدت عدة أشخاص متفرقين يفرشون بسطات وتجارتهم هي إحضار مجموعة من المحار، وأنت تدفع روبية وهو يفتح واحدة من المحار علي حظك؛ فإن وجدت لؤلؤة فأنت قد ربحت وقد يكون ربحًا عظيمًا، وتتراوح اللآلئ في أحجامها حتي تبلغ أصغرها ربما أقل من حبة العدس الصغيرة طبعًا مكورة وليست مسطحة، وكنت أمني النفس في أولي المجازفات بلؤلؤة تخزي العين ومع تضاءل الأمل رضيت بعدسة، واتضح لي أني حتى العدس محروم منه (عندما عقبت على رسالة أخي محمد عبده قلت له: (قليل الحظ يلاقي العظم في الكرشة حتى اللؤلؤ الياباني ما حصلته). وتذكرت قول الإمام الشافعي. يمشي الفقير وكل شيء ضده…. والناس تغلق دونه أبوابها.
وتراه ممقوتا وليس بمذنب … ويرى العداوة لا يرى أسبابها
حتى الكلاب إذا رأته مقبلًا … نبحت عليه وكشرت أنيابها
وإذا رأت يومًا غنيًا ماشيًا …حنت إليه وحركت أذنابها.
المهم خسرت لي كم روبية. وسكتم بكتم ما جبت سيرة لأحد حتى لا يشمتون بي. فلم أكن ناقصًا يكفيني ما فيني. وبدأت رحلة العودة، ولكن فكرت في أختي أم حسن والتي إلى حد كبير كانت هي التي تعتني بي وبعد زواجها، جعلتني في كنفها ترعاني. فكرت كيف أقدم لها شيئًا من الكويت. فكان في ذلك الوقت قطعة موسيقية اسمها شيش كباب. وقعها جميل وصيتها ذائع ونسمعها في الإذاعات؛ فذهبت إلى متجر إسطوانات واشتريت واحدة. بعد أن استعطفت عمي ليعطيني ثمنها. ركبنا الشاحنة المكتظة بالبضائع والركاب، وكان من بين الركاب مجموعة من النساء، ونحن في الطريق واقتربنا من معبر حدودنا، تذكرت أن معي الإسطوانة وجاك الموت يا تارك الصلاة. فعندنا كانت من المحظورات.. والليلة مع الحظ قمرا واللي ما يشتري يتفرج فكيف أمرر الإسطوانة. فأقل الأضرار كان أن تصادر مني وكأنك يا أبو زيد ما غزيت. كنت في أثناء الرحلة قد تواصلت بالسواليف مع بعض السيدات… كن تلك السيدات كلهن مبرقعات. ولو أن محمد عبده كان حاضرًا وغني “ما هقيت إن البراقع يفتنني” لقلت وافق شن طبقه، ومن أصواتهن فقط كنت ربما أحكم علي من هي أكثرهن تفهما لما سأطلبه.
توكلت على الله، والذي بدو يصير يصير وإن أخطأت سيشفع لي صغر سني.. فقلت لها تكفين أبيكي تضعين هذه الإسطوانة داخل عباءتك حتى لا تصادرها الجمارك. فقالت وش ذي؟! فشرحت لها الحال مع استعمال أرقى عبارات الرجاء. فقالت طيب وإن تكلمت فأخبرتها أنها لا تتكلم إلا بجهاز إضافي. المهم الله سلم والمهمة المستحيلة عدت بنجاح. وعدت بهديتي لشقيقتي وكلي فخر. من قدي رحت السينما والتذاكر تشهد. ومررت أسطوانة محظورة ونجحت؛ وذلك كان في ليلة كنها الليلة…
0