شاشة الأخبار هذه الأيام لا تسُرّ المشاهد.. لا شيء سوى مزيد من الجراح.. والمشاعر انساقت للبوح بها في صحيفة تحمل اسم أطهر بقاع الأرض لها وزن وتقدير.
2.3 مليون مواطن سكان قطاع غزة.. بعد 7 أكتوبر 2023م؛ كلٌ منهم له قصة تستحق أن تكتب بالدموع؛ وإن شئت بمداد من الدماء؛ فنصبح ونمسي على مجلدات من الآلام؛ لا أدري أيها أكثر أسى. جميعها يتفطر لها القلب كمدًا.. بَشرٌ.. عُزّل.. لا حول لهم ولا قوة إلا تنفيذ الأوامر وتلقي الضربات.. الأوامر تتعدد مصادرها وأسرارها. هناك من تأتيه أوامر وهو (يتسدّح) في أرقى الفنادق؛ ليحقق مصالح خاصة له؛ ولأجندة لها أهدافها، وتدخلات لا تخفى على رجل الشارع العادي؛ بعد اختطاف أربع عواصم عربية؛ وخامسة المختطفات: (غزةُ الحمساوية).
العملية في مجملها لا يمكن الإلمام بتعقيداتها على كاتب؛ والاستنتاجات تُشير إلى أن الأوامر تبدأ بالتخطيط والتمويل والتوجيه من خارج وطن شكليٍّ – مسلوب.. مسلوق – وأوامر تنفذ فوق أرضه؛ وأخرى من تحت الأرض؛ أنجزت بطولات مثيرة ومرعبة؛ يُصفَّق لها وتُعد انتصارًا غير مسبوق؛ ولأن الهجوم كان مُيسّرا؛ فالعملية لا تخلو من أسرار .. بطولات مؤقتة أمام كيان له سجل عتيد في الإجرام والانتقام، تدعمه دولٌ عظمى لن تسمح لأحد لكي يتطاول، ويتذوق حلاوة انتصار عابر.
العدو الصهيوني سوف يلملم جراحه العميقة على أية حال؛ لكن محصلة بطولات (حماسنا)؛ مآربٌ يحصدها آخرون؛ ويبقى لِغزّة الجريحة أشلاء ممزقة، ودماء مستباحة؛ وأنهار من دموع؛ لأبرياء لم يؤخذ لهم رأي، وهم أصحاب الأرض وأهل الشأن؛ فقدوا عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى؛ أيتام وأرامل وثُكالى؛ تدمير شامل للبنية التحتية والفوقية. لقد توقفت الحياة واختفت المدارس والجامعات والمستشفيات والمتاجر؛ والإدارات الخدمية؛ والمنازل وما تحويه من مقتنيات ووثائق وصور الأحبة والحبائب والذكريات !!
في هذا السياق وقع بصر كاتب هذه السطور على مشهد طوابير ممن سَمح لهم الكيان الصهيوني الغاصب ”صاحب المجازر”؛ لكي يغادروا شمال غزة إلى جنوبها؛ وهي مَسِيرة تذكرني بهروب جماعي وفظائع مماثلة أيام نكبة 1948م؛ حيث التهجير القسري. المصادر تُشير آنذاك إلى 750 ألف فلسطيني جرى طردهم وتهجيرهم من وطنهم. أما الآن فقد تضاعف العدد ثلاث مرات. لكنه هذه المرة كان أشد إيلامًا لأنه تهجير تحت وابل من القصف الهمجي غير الأخلاقي؛ البعيد عن كل الأعراف الدولية بشأن النقاط الآمنة والمحرمة دوليًا. قصفٌ لا يبقي ولا يذر؛ اُستخدمت فيه أحدث أدوات الشر والإبادة، وفي يقيني أن كل مشرّد؛ لا بد من فقده لقريب أو صديق وحبيب.. وقد كان – الغزاوي – قبل أيام آمنًا مطمئنًا إلى حد كبير في منزله وعمله أو متجره. الآن نرى من بقي على قيد الحياة؛ مشردًا هائمًا على وجهه.. لا يدري متى وأين سينتهي به المطاف !! هل سيضاف إلى رصيد التهجير سبعون سنة أخرى؟
نعود إلى العنوان: (فِيشِّي.. فِيِّي إشِي..).. فقد آلمني مشهد فريد بما فيه من مراعاة لمشاعر الأمومة؛ ومشهد لحيرة أُمّ على فلذة كبدها المصاب؛ وطاقم صحي يساعد في إخفاء ولملمة الجراح؛ تلك المشاعر الإنسانية كانت تحت القصف والدمار تستحق التعاطف والنشر؛ والتوضيح لما نُشر حولها من مغالطات. ملخصها: شاب فلسطيني جريح ومن حوله يلفون رأسه بقماش ثم يفتحونها: (ولا حاجِه.. ولا حاجِه.. هيُّوُه ) لكي يُطمئنوا والدته عليه بأنه لا يوجد شيء خطير على ابنها؛ أما الشاب فهو يخفي يده وذراعه المسلوخة المحروقة عن والدته خلف ظهره؛ ويخبرها بلهجة غزاوية وهو يتجرع الألم؛ ويكرر القول : (فيشّي.. فِيِّيي..إشِي.. ) !!
لقد كان بالإمكان التوصل إلى حلول أنفع وأجدى وأقل إيلامًا من تلك المغامرات؛ لو استمعت الأطراف المعنية إلى نداء العقل والواقع الذي حرصت عليه المملكة العربية السعودية منذ أمد بعيد؛ وهي تجاهد بجيشها منذ عام 1948. ولاحقًا تزاحمت الجهود الدبلوماسية السعودية والمادية والإنسانية؛ تجاه القضية الفلسطينية لتحقيق أقصى قدر من النجاح وفق سياسة (أمسك وطالب). فالدلائل تشير إلى أنه من الممكن جدًا أن تنتهي المعادلة الشائكة بإنشاء دولة فلسطينية على ثرى أرضها ولها عاصمتها وكيانها. كل ذلك كان يجرى وفق مبادرات سعودية طويلة ومُضنيَة.. فالحلول الدبلوماسية غالبًا تتفوق على الحل العسكري.
غزة الجريحة بعد تلك المغامرة غير المحسوبة: (ما عاد.. فيهاش.. إشِي ).. لا بشر.. ولا حجر.. كل من كان على ثراك يا غزة الجريحة؛ إما مدفونًا أو مشردًا مكلومًا في بدنه وقلبه وماله وممتلكاته ومستقبله!!
في رقبة من نُجيِّر تلك المآسي؟ حسابهم على الله.. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
عنوان ملفت..
وسطور قوامها الدموع والأسى… وأسلوب راق يتسم به الكاتب.
رحم الله الشهداء
ونسأل الله أن يشفي المصابين..
وأن تنتهي هذه الأزمة الكارثة على خير لشعب فلسطين واخواننا في غزة العزة.