حين نكتبُ عن مكةَ سيدةِ المدائن، البلاد التي حباها الله أمنًا وكعبةً، يكونُ للحديث عنها سَمتٌ خاصٌ، تجلِّلُه قدسيةُ المكانِ، وجَلَالة الْمَكَانة، المُعبَّقِ بروحانيةِ الزمان.
فما تكتنزُه هذه المدينةُ العريقةُ المقدسةُ المباركةُ يجعلُها كتابًا مفتوحًا من الأحداثِ المسترسلةِ التي تحكي التاريخَ وتروي حديثَ المكانِ وثقافتَه النابضةَ بمعارفِ قاطنيه وقِيَمِهم وأخلاقِهم وسُلُوكَهم وإبداعِهم في رسمِ الجمال، بدءًا بقصة أبو الأنبياء إبراهيم وابنه إسماعيل -عليهما السلام- ورفع القواعدِ من البيتِ وطهارتهِ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِقِ، ونزولِ الرحماتِ التي جعلتْ منها بلدًا آمنًا تُجبى إليه ثمراتُ كُلِّ شَيءٍ، وليس انتهاءً بنورِ الإسلامِ العظيم الذي أضاء الكونَ كلَّه بالنقاءِ والبهاءِ والعطاءِ.
تركتُ العَنانَ لقلمي كثيرًا ليحلِّقَ في آفاقِ هذه المدينة المقدسة؛ مكةَ، بكة، أم القرى، مَعَاد، القرية، البلد الأمين، الوادي، البيت العتيق، مهبط الوحي، وبيت الله الحرام، فوجدتني أطوفُ به حول مكة التراث، والحضارة، والعلم، والجغرافيا، والتاريخ فيرسمُ بمدادِه ما سكنَ الجوانحَ من ثقافةٍ تجذَّرت في أفياءِ هذه المدينةِ الطاهرة؛ فهنا دحالُ مكة، وجِباليها، وشِعَابُها، وأوديتها، وحاراتُها وشوارعُها، وهناك عاداتُ أهلِها المضمَّخةُ بجلالِها وجمالِها وقد شكَّلتْ منظومةً تربويةً من النُّبلِ والأخلاقِ الحميدةَ التي انداحتْ على حياةِ قاطنيها حتى في ممارساتِهم العمليةِ وحِرَفِهم اليدوية وعاداتهم وتقاليدهم اليومية، ثم إبداعِهم المعرفيّ الذي يؤصِّل للحضاراتِ التي تحكي التاريخَ.
تزدانُ الصورةُ أيضًا مع ذلك الموكبِ السنوي المَهيبِ، موكبِ الركن الخامس من أركان الإسلام، الذي لا يمكن أن يؤدى إلا على أرض مكة، إنه الحج الأكبر؛ حيث عرفات الله وجبل الكمال والتمام، والمشاعر المقدسة؛ حيث بياضُ القلوبِ قبلَ الأجساد، هنا تقشعرُّ الأبدانُ وترتجفُ الأيدي والأقدامُ، وتشرئبُّ الأعناقُ كشموخِ البنيانِ من ذلك المشهدِ العظيم.
ولمَ لا؟ وهم في بيتِ الله الحرام، بجوار الكعبة، قِبلةِ القلوبِ والأرواحِ؛ حيث أبوابُ السماءِ مفتوحةٌ تحملقُ فيها الأنظارُ، ترجو رحمة من الله ورضوانًا.
وجدتني أفتِّشُ في أضابيرِ الجغرافيةِ والتاريخِ، وأنتقي باقةً من أدبِ الرحلاتِ التي وصفتْ أدقَّ المشاهدِ وروتْ أجلَّ التفاصيلِ عن “أمِّ القُرى”؛ فعزفتْ ألحانَ الخلودِ بإيقاعِ روحاني!
ففي مكة تسمع أصواتِ الأماكن وتقرأ صفحات الزمان، ولعلنا نَطوف بين أروقةِ التاريخ، ونغذي خُطانا فوق تضاريسِ مكة المكرمة وجبالها؛ حيث جبل أبي قبيس أحد أخشبي مكة، والنور، وثور، وعمر، والمدافع، والمروة، والسيدة، وقعيقعان -نسبة إلى تقعقع الأسلحة به خلال الحرب بين جرهم وقطور- وهو أحد جبال مكة المكرمة وثاني أخشبيها المشهور بالقيمة التاريخية والهوية الجغرافية، محلِّقين في سماء هذه المدينة المقدسة.
فطبت يا مكة، وطاب أهلك، وطاب زائرك وطائفيك وساكنك.
لعلنا من كل هذا، نقتسم بقدْرِ الحبِّ صورَ الجمالِ والبهاء والجلالِ التي روتْ الكثيرَ عن (هذا البلد). قال تعالي في سورة البلد: (لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ (2)(البلد:2،1).
0