كان يعتقد العالم أن الملف الفلسطيني الإسرائيلي قد طُوي بسبب التفوق العسكري الإسرائيلي، وما يشكله من عنصر رادع وتوفير الضمانة لأمن إسرائيل، لكن حرب 7 أكتوبر شكَّلت صدمة استراتيجية وسياسية للمجتمع الدولي، ما يعني أن نظرية الردع والتفوق العسكري لم تكن فاعلةً، كذلك قضت على نظرية اللجوء إلى القوة العسكرية من أجل القضاء على تنظيم ينتمي لقاعدة شعبية بمثابة ضرب من الخيال؛ لذلك نجد أن الرئيس بايدن حذر الإسرائيليين من ارتكاب أخطاء الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، وبشكل خاص في الفلوجة لكن تجاهل الإسرائيليون تحذيره ولم يُؤخذ على محمل الجد.
لم تتوقع إسرائيل قوة الدبلوماسية العربية بقيادة السعودية التي ارتكزت على التوافقات الإقليمية بين العرب بقيادة السعودية وإيران وتركيا، وبعدما كانت تتحاشى إسرائيل ذكر الدولة الفلسطينية خصوصًا بعدما رعت واشنطن الممر الهندي العظيم المار بإسرائيل عبر العرب إلى أوروبا، ربطت السعودية تحقيق هذا المشروع بإقامة دولة فلسطينية لاستكمال مرحلة التهدئة في منطقة الشرق الأوسط لتتحول إلى أوروبا الشرق الأوسط حتى تكون فيه إسرائيل وإيران وتركيا شركاء في هذه التنمية الإقليمية، لكن رفع نتنياهو في الأمم المتحدة خارطة الشرق الأوسط دون تضمين للدولة الفلسطينية.
ما يعني أن الحكومة اليمينية الإسرائيلية ترفض الدولة الفلسطينية مقابل تحقيق المشروع بل تود فقط تسوية على غرار التسوية مع دولة الإمارات ضمن مشروع صفقة القرن، فكانت هذه الحرب ترويضًا لليمين الإسرائيلي، وأن هذه الحرب أحيت القضية الفلسطينية، وأن العالم بدأ يتحدث عن ضرورة إقامة الدولة الفلسطينية حتى لا تتكرر حروب جديدة، خصوصًا بعدما فشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها في القضاء على حماس واسترجاع الرهائن عبر الحرب، وتصفية القضية الفلسطينية عبر التهجير القسري؛ عوضًا عن ذلك اتجهت إسرائيل إلى القـتل الجماعي والتدمير المُمنهج خصوصًا لشمال غزة، ورغم أن الحدث كانت الحرب الأليمة لشعب غزة، لكن النتيجة كانت هدنة تعتبرها إسرائيل وفي الداخل الأمريكي هزيمةً لإسرائيل وانتصارًا للجهود العربية التي قادها العرب بقيادة السعودية.
لذلك لن تقبل إسرائيل بدولة واحدة؛ لأن الغالبية مستقبلًا ستكون للفلسطينيين باعتبار أن التوسع الديموغرافي عبر الهجرة سيكون سلبيًا بالنسبة لإسرائيل ليس كما كان سابقًا، وبالنسبة للفلسطينيين يتمسكون بأرضهم ولن تكون هناك نكبة ثانية بعد نكبة 1948 خصوصًا بعدما أعلنت مصر والأردن الحرب على إسرائيل إن مارست تصفية القضية الفلسطينية عبر التهجير القسري إلى سيناء والأردن، كذلك النمو السكاني للجانبين عبر المواليد سيكون لصالح الفلسطينيين ففي كل ألف 4.6 مولود فلسطيني، أما بالنسبة لإسرائيل ينخفض عدد المواليد الجُدد إلى 2.2 لكل ألف، فستتجه إسرائيل ليس إلى القبول بدولة للفلسطينيين بل هي تُطالب بها اليوم بدعم دولي وبشكل خاص أمريكي من أجل تحقيق مشروعها الممر الهندي العظيم مقابل الحزام والطريق للحفاظ على المصالح الأمريكية في المنطقة حتى لا تستفرد الصين بالمنطقة، خصوصًا بعدما تعرض بايدن خلال زيارته للشرق الأوسط إلى إلغاء كلٍّ من ملك الأردن الملك عبد الله بن الحسين والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لاجتماع معه بعد قصف مستشفى القدس من أجل ضغط الولايات المتحدة على إسرائيل؛ بوقف استهداف المستشفيات.
الدبلوماسية العربية الجارفة بقيادة السعودية التي اعتبرت أن الغرب يتعامل بازدواجية المعايير بين الأزمتين في أوكرانيا وفلسطين، واعتبرت مجلس الأمن عاجزًا ولم يعكس صورة العالم الجديد مع نشوء قوى جديدة، وكان عليه الاستعانة بقوى إقليمية ومحلية كالسعودية التي تقود جهودًا دبلوماسية فاعلة في عدد من الملفات الإقليمية والعالمية منددة باللجوء إلى استخدام حق النقض الفيتو من الدول الدائمة العضوية، وكانت أمريكا استخدمته في القضية الفلسطينية خمسين مرة على الأقل، وهناك مائة قرار لم يدخلوا طي التنفيذ، فلم يعد هذا الانحياز مقبولًا في ظل تلك التغيرات الإقليمية والدولية بعد بروز فاعلين جُدد على الساحتين الإقليمية والدولية، وهي من أوائل الدول التي طالبت فيها السعودية بإصلاح مجلس الأمن.
إقامة الدولة الفلسطينية أقل تكلفة من استمرار العنف، رغم أن إسرائيل وضعت معوقات تقنية أمام قيام دولة فلسطينية موحدة، وفي كيفية التواصل بين غزة وقطاع الضفة الغربية، وفي كيفية وقف تغول وتوحش المستوطنين المسلحين، وانبثاق سلطة وطنية تكون قادرة على إدارة الدولة الفلسطينية.
لكن مع طرح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال مؤتمر صحفي مشترك بالقاهرة مع رئيس الوزراء الأسباني بيدرو سانشيز ورئيس الوزراء البلجيكي ألكسندر دي كرو رؤية تعتمد على تأييد دولة فلسطينية منزوعة السلاح دون مفاوضات حل الدولتين مع وجود قوات أمن دولية تكون من الناتو أو قوات الأمم المتحدة أو قوات عربية أو أمريكية مؤقتة لتحقيق الأمن لها ولإسرائيل، لأن الرئيس السيسي يرى أن الحل السياسي الذي يقضي بإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية ما زال بعيد المنال كما يرى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي؛ حيث تسعى القاهرة إلى استثمار الهدنة وتوظيفها وما يرافقها من زخم حول القضية الفلسطينية الذي أوجدته حرب 7 أكتوبر إذا أرادت إسرائيل أن تنعم بالأمن والاستقرار والاندماج في المنطقة، أي تسعى القاهرة نحو بلورة “موقف مصري أوروبي عربي” يؤدي إلى وقف نهائي للحرب، والحفاظ على أسس وثوابت القضية الفلسطينية وقطع الطريق على أي مخططات مستقبلًا لتفريغ قطاع غزة من سكانه وترحيلهم إلى سيناء أو غيرها خصوصًا وأن بحث إحياء مسار حل الدولتين فكرة استنفدت، ولا بد من الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
– أستاذ الجغرافيا السياسية والاقتصادية بجامعة أم القرى سابقًا