أكثر من ثلاثةِ عقود منذُ حزمت أغراضي مودعًا الكلية الجامعية بمقاطعة (ويلز) البريطانية حاملًا شهادة الدكتوراة في الإحصاء التطبيقي.
كانت السنوات الأربعُ التي قضيتها في هذه الجامعة العريقة تُعادل عُمرًا بأكمله بما فيها من التجربة والخبرة والتعلّم، والتعليم والاحتكاك الثقافي، والفرح والترح. كان ذلك في منتصف تسعينيات القرن الميلادي الماضي؛ حيث لم تكن البعثات والسفر لخارج المملكة أمرًا شائعًا كما هو في وقتنا الحاضر.
لا يزال في الذاكرة عندما مررت بالملحق الثقافي السعودي بلندن الأستاذ الأديب/ “عبد الله الناصر” لأسلمه الأوراق اللازمة لفتح ملفي في الملحقية كطالب مُبتعث من جامعة الملك عبد العزيز، ومن الطريف أنني لم أره مرةً أخرى إلا بعد نهاية البعثة لأخذ إخلاء الطرف وتذاكر العودة لأرض الوطن، وقدّم لي خطابًا يُهنئني فيه بمناسبة حصولي على الدكتوراة ما زلت أحتفظ به إلى يومنا هذا.
لقد منّ اللهُ سبحانه وتعالي عليَّ بنعم كثيرة خلال فترة الابتعاث، في السكن أكرمني الله بجوار عائلة على قدر كبير من الأدب والعفة والسلوك الحسن، وكذلك بمالكة المنزل الذي قمت باستئجاره والتي تجاوزت الثمانين من العمر، كانت تهتم بأسرتي الصغيرة المكونة من الزوجة واثنين من الأبناء، كانت تُعاملني كابن لها رغم أنها لم تتزوج طيلة حياتها، وفي الدراسة تم تعيين مشرفة على مشروعي البروفيسورة (سيلفيا لوتكنز) كانت على درجة عالية من الطيبة والتمكن في التخصص والتواضع بالرغم من أنها أحد تلاميذ عالم القرن وأستاذ الإحصاء اللامعلمي في جامعة وسط ويلز في ستينيات القرن الماضي البرفيسور (ديفيد لندلي).
مما أذكره عن هذه السيدة العظيمة أنها حددت لي ساعة لمقابلتها كل يوم جمعة لعرض ما قمت به من عمل خلال الأسبوع، وكان وقت المقابلة المحددة في الفترة من (12-1) ظهرًا تمامًا، وهو وقت صلاة الجمعة بمسجد الجامعة في وسط المدينة، وفي الأسبوع التالي وإذا بها تقوم بتغيير الوقت إلى الفترة من (10-11) صباحًا بعد أن نما لعلمها عن موعد صلاة الجمعة للطلاب المسلمين.
هذه الأحداث وغيرها تجعلني أتذكر والدي -يرحمه الله- عندما أخبرته بأنني لن أغادر إلا إذا سمح لي، خاصةً وأنه كان يعتمد عليَّ بعد الله في كثير من الأمور، فكان رده -يرحمه الله-: “توكل على الله”، مضيفًا عبارة لازالت في ذاكرتي “لا تعمل شيئًا هناك تخجل أن تعمله هنا”، ودعاء الوالدة -حفظها الله- برعايته، فقد كانت دائمًا تدعو لي وأنا على مشارف السفر: “ربي يجعل لك رفيقًا في كل طريق”.
وببركة دعائها لا أعرف يومًا أني كنت في موقف صعب، إلا وكان فضل الله عليَّ عظيمًا.
أحب هنا أن أقول للأبناء: “عليكم ببر الوالدين فوالله إن دعوة منهم تفتح لكم أبواب التوفيق والنجاح ما لا تبلغونه بجهودكم مهما كبرت وعظمت”.
0