في غمرة الضوضاء، والانشغال والتضخيم المُفرط المصاحب للعملية التعليمية، تغيب الكثير من الحقائق المفصلية في تقدم العلوم، وفي التحولات الحضارية الحاسمة كما تغيب ضحالة التعلُّم قسرًا أو اضطرارًا.
تدل هذه الحقائق على أن التفوق المدرسي والتعليمي عمومًا ليس معيارًا للنبوغ؛ فالمعايير التي يقوم عليها التعليم في مختلف المراحل هي معايير تتناسب مع قدرات عموم الدارسين، ولا تتطلب قدرات استثنائية.
“نيوتن” بالمعايير المدرسية والتعليمية لم يكن متفوقًا؛ فقد نظر إليه معلموه في التعليم العام على أنه تلميذ ربما أقل من المتوسط، وحتى لو كان متفوقًا مدرسيًّا؛ فإن الدلالة ضعيفة؛ فالتفوق التعليمي قائم على الاجتهاد والذاكرة، وليس على النبوغ.
“نيوتن” كان عاديًا في مرحلة ما قبل الجامعة، واجتاز الدراسة الجامعية بمستوى عادي، ولم يُظهر أي تميز تعليمي.
لكن هذا الطالب العادي في المعيار التعليمي، كان خارقًا خارج المجال التعليمي؛ فمنذ أن وُجِد البشر وهم يرون الأشياء تسقط، وقد اعتادوا على ذلك؛ بحيث إن هذه الظاهرة لم تُحْدِث في عقول كل الأجيال السابقة أي تساؤل لكن نيوتن وحده تساءل حول هذه الظاهرة العجيبة التي حجبها التآلف، ووجد الحل الخارق كما توصل إلى قوانين الطبيعة؛ فأصبح أعظم شخصية علمية، وقد كان
التعليم يرى أنه شخص لا يلفت النظر.
وبعد نيوتن فإن الرجل الثاني في علم الفيزياء فراداي قد جاء من خارج المؤسسة التعليمية؛ حيث لم يتلقَ سوى تعليم مبدئي مكَّنه أن يتعلم على نفسه لقد كان من حظه وحظ العلم وحظ الجنس البشري أنه التحق بالعمل صبيًّا لدى مجلد كتب؛ فاستثمر التآلف مع الكتب؛ ليصبح الرجل الثاني في علم الفيزياء.
“آينشتاين” كان تلميذًا دون المتوسط في المقررات التي لا يهواها بشكل تلقائي لكنه كان باهرًا في الفيزياء وفي الرياضيات، وهذا يؤكد فاعلية الشغف كما يؤكد الفاعلية العكسية للتعلم قسرًا أو اضطرارًا.
ليس هذا فقط بل إن الثورة الصناعية تحققت بواسطة جيمس وات وريتشارد آركرايت وكلاهما علَّم نفسه كما هو شأن فراداي وبسبب الثورة الصناعية وفورة حركة الملاحة ومغامرات الاكتشاف تغيرت اهتمامات العلوم، ودخلت في مجالات الاقتصاد والمجالات العملية.
والكل يعرف بأن المدرسة قد اعتبرت توماس أديسون غير قادر على التعلم.
والأخوان رايت علما نفسيهما فحققا اختراقًا مذهلًا، وليست هذه الأسماء سوى نماذج.
وبعد كل التطورات الحضارية سوف يكتشف العالم بأن التنشئة العلمية، تتطلب أسلوبًا جديدًا تمامًا مغايرًا للأسلوب السائد في كل العالم؛ فلم يعد تقديم المعلومات يعني الكثير، وإنما المطلوب خلق الشغف بالمعرفة، وبناء قدرات التفكير وتدريب الأجيال على الاستخدام الأرقى لقابلياتهم.