وفاة مستشار الأمن القومي وزير الخارجية الأمريكي الأسبق “هنري كيسنجر” مؤخرًا عن عمر يُناهز المائة عام يسدل الستار عن أبرز وأشهر دبلوماسي غربي منذ عهد مترنيخ، والذي يُعتبر رائد الدبلوماسية الأمريكية المكوكية الحديثة، وهو لقب استحقّه بسبب جهوده لتحقيق السلام في الشرق الأوسط.
“هنري كيسنجر”، أو “العزيز كيسنجر” الذي يُعتبر أول وزير خارجية أمريكي من أصل يهودي لعب دورًا كبيرًا في إدارة السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وفيتنام في سبعينيات القرن الماضي، واستطاع أن يصنع له شعبية طاغية في عالم السياسة الخارجية الأمريكية.
“كيسنجر” الذي كان كثيرًا ما كان يظهر في وسائل الإعلام بصحبة رفيقته نانسي ذات الوجه البيضاوي، وبلعقه “الكاتشب” في مطاعم الوجبات السريعة استطاع أن يُشكل ظاهرة ملفتة خلال فترة الحرب الباردة عندما استطاع أن يدفع عربة التقارب بين الولايات المتحدة الأمريكية وكل من موسكو وبكين في ذلك الوقت، وعندما لعب دورًا محوريًا في حرب أكتوبر 73 لصالح إسرائيل. كما عمل أيضًا في مجالس إدارة العديد من الشركات وكان عضوًا أساسيًا في منتديات السياسة الخارجية والأمن؛ بالإضافة إلى تأليفه 21 كتابًا.
وعلى الرغم من تركه منصبه أواسط السبعينيات، إلا أنه ظل يدلي باستشاراته للكثير من القادة لعقود من الزمن، فبعد أحداث الـ11 سبتمبر طلب منه جورج دبليو بوش أن يرأس التحقيق في الهجمات على نيويورك وواشنطن، وعقد اجتماعات مع الرئيس بوش ونائب الرئيس ديك تشيني لتقديم المشورة لهما بشأن السياسة في العراق بعد غزو عام 2003، وقال لهما: “إن الانتصار على التمرد هو استراتيجية الخروج الوحيدة”. كما كان يُقدم المشورة لعدد من زعماء العالم في مقابل مبالغ طائلة.
ولعل نجاح الدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط خلال وبعد حرب أكتوبر، والمتمثلة في تحول مصر إلى حليف للولايات المتحدة الأمريكية وعقد اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، والتي لعب “كيسنجر” دورًا كبيرًا فيها، يعود الجزء الأكبر منها لموقف الرئيس المصري محمد أنور السادات نفسه.
يقول “كيسنجر” في مذكراته إنه طلب من الرئيس السادات الإفراج عن 30 طيارًا إسرائيليًا معتقلًا في مصر بعد حرب أكتوبر، وتوقع “كيسنجر” أن يكون المقابل أن يطلب السادات انسحابًا إسرائيليًا كاملًا من الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، لكن السادات رد: “خُذهم معاك”!. وفي موضع آخر أن السادات كان بوسعه الحصول على أي طلب لو ساوم الأمريكيين على طرده الخبراء السوفييت من مصر، لكنه قام بذلك العمل دون الرجوع للأمريكيين، ودون مقابل، وهو ما يعني أن مرونة الرئيس السادات وتساهله لعبا دورًا كبيرًا في نجاح سياسة واشنطن في الشرق الأوسط التي كان يقودها “كيسنجر” في ذلك الوقت.
لكنّ محطّات مظلمة في تاريخ الولايات المتحدة لطخت صورته، مثل دوره في دعم انقلاب العام 1973 في تشيلي وغزو تيمور الشرقية في 1975، فضلًا عن حرب فيتنام، رغم دوره في مباحثات باريس التي أنهت تلك الحرب، وقصفه الوحشي لكمبوديا ووقوفه إلى جانب الخمير الحمر.
ولا بد ونحن نتحدث عن “كيسنجر” الإشارة إلى هزيمته الكبرى خلال مسيرته الدبلوماسية الطويلة، ونعني بذلك لقاءه مع جلالة المغفور له -بإذن الله- الملك فيصل بن عبد العزيز في الرياض بعد حرب 1973 ليطلب منه فك حظر تصدير البترول، قال له: يا جلالة الملك لدي أمنية وأريد منك تحقيقها، فطائرتي التي جئت بها خالية من الوقود، وأرجو منك تعبئتها. أجاب الفيصل: وأنا أيضًا لدي أمنية، وأريد منك تحقيقها، وهي أن أصلي قبل وفاتي في المسجد الأقصى، فهل تستطيع تحقيق حلمي؟
رحم الله الملك فيصل الذي استطاع تحطيم أسطورة هنري كيسنجر: ثعلب السياسة الأمريكية!