في حوار أدبي شائق تمحور حول شاعرية عباس محمود العقاد، طرح أستاذنا الشاعر الرائد :يحي معيدي؛سؤالاً مؤدَّاه :هل يكون الناقد شاعرا؟
وهل يكون العكس أيضاً؟
وذلك بهدف توسيع رقعة المناقشة؛وكشف الملابسات المتعلقة بتلك القضية،بواسطة إبداء وجهات النظر من الأدباء الذين شهدوا معنا تلك المساحة الحوارية..
سؤال أستاذنا المهم ؛طار بي
إلى سنوات الجامعة؛ فوجدتني في حضرة أستاذي الدكتور محمود فياض رحمه الله؛هذا العَلَم الأدبي الذي حظيتْ به جامعة أم القرى في مرحلة ذهبية من مراحل عمرها الزمني.
واستحضرت تدريسه لنا “مادة الأدب الحديث”؛وعلى وجه التحديد المحاضرة التي استفاض فيها الحديث ” عن (شاعرية العقاد وأسلوبه ومكانته وإنجازاته) ؛
فتذكرت أنَّه وصف أسلوب العقاد يومها بقوله الدقيق:”لديه جنوحٌ ظاهر إلى الاستعلاء العقلي؛ يوحي للمتلقي أنَّه كمن يحمل مسؤولية التاريخ على كاهله؛وفيه نزوعٌ إلى تحليلات وتفريعات من قبيل المهارة الذهنية”..!!
ظلَّت تلك العبارة المُجملة في ذهني تبحث عن مرافئ آمنة ؛تستند إليها أو عليها..
ومع مطالعات شعر العقاد في دواوينه المختلفة ؛وكتبه الثريَّة فيما بعد؛
في إطار اتِّضاح بعض المعالم الرؤيوية الشخصية ؛تبين لي بجلاء دقَّة وصف أستاذنا الراحل لشخصية العقاد وشعره؛فوجدتني على أرض الواقع أطرب لبعض شعره الوجداني المجنح ؛ويستبدُّ بي الذهول أمام لغته التجريدية المحضة في نصوص أخرى؛وطريقته الميَّالة إلى التحدي في توخِّيه الموضوعات الغريبة..
وعندما أُتيح لي الاطِّلاع على آراء طائفة من دارسي شعره من أمثال الدكتور أنس داود ،وزكي نجيب محمود، ومصطفى السحرتي ؛لاحظتهم يقفون حيارى أمام نزعته الشعرية العقلية واستغراقه في هذا المنحى؛بين مؤيد له على طول الخط؛ومتردد في تقييم شاعريته أو الإشادة بها.
وحده -في تصوري- الأستاذ فاروق شوشه رحمه الله؛من استطاع إنصاف العقاد بعيداً عن الشطط والتوجس والاسترابة ؛وذلك في الندوات التي أقيمت حول العقاد؛أو في مقاربات بعض نصوص العقاد .
ففي معرض الحديث عن العقاد في إحدى الندوات؛وصفه بقوله:
«إن شعر العقاد سوف يتحدى فى القرون القادمة؛وذلك لأنَّ الذائقة الشعرية فى زمانه لم تكن مؤهلة لاستقبال شعره على الوجه الصحيح، حيث كانت ذاكرة أسست لها مدرسة الإحياء “البارودى، شوقى ثم حافظ إبراهيم”.
ولما ظهر العقاد كوَّن ذوقاً من نوع آخر..كل شيئ يقوله نراه شعراً»
وأشار إلى تجربته فى ديوان “عابر سبيل” وقصيدة عسكرى المرور ..
وتابع قائلاً:
«إنَّ الناس لديها فكرة عن شعر العقاد بأنه صعب وجهيم، ولكنه فى واقع الأمر يفيض رقة وعذوبة»
مستدلاً على ذلك بقصيدته التى كتبها لمحبوبته التى صنعت له صديراً ليقيه برد الشتاء.
وفي مجلة العربي تناول شوشه أيضاً قصيدته المسمَّاة:(السينما توجراف)؛التي يقول فيها:
بربك ماذا في ستائرك الطلس
أأشباح جن تلك تظهر للإنس
إذا لم تكن جنا فما لي عهدتها
تفر فرار الجن من طلعة الشمس
ستور ولكن يكشف النور عندها
فنونا من الأسرار تخفى على النفس
كأني أرى فيها قريحة شاعر
مصورة للناس في عالم الحس
وكالعين إلا أنها تمسك الرؤى
وترسلها رسما تراه على الطرس
ترد تجاليد القبور كواسياً
وتبعث أشخاص الرفات من الرمس
وتحمدها عين الغريب لأنها
تنوب بها الرؤيا لديه عن الحدس
تحيط عن الطرف الحجاب كما رأى
نبي الهدى في مكة صورة القدس
وكم معجزات للصناعة بيننا
يجيء بها رسل المعارف والدرس
تناولها (شوشه) بالتحليل النقدي؛وانتهى إلى هذا الوصف:
«لقد كان العقاد الشاعر شديد العصرية وهو يصور اهتزاز وجدانه بفن جديد يقتحم حياة الناس في العصر الحديث هو فن السينما أو السينما توجراف كما سماه.
ولأن العقاد المثقف والمفكر يعيش دوما بوعيه وشمول معرفته في عالم الصحو واليقظة والتنبه الكامل، فهو يستقبل هذا الوافد الجديد استقبال المتسائل عن حقيقته، وطبيعة العلاقة الروحية بين مبدعه المصور ومبدع الشعر، وكلاهما يستخدم الصورة وسيلة للكشف عن المعنى وتوصيل الرسالة.
إنه فن تختلط فيه الحياة بالموت والأحياء بالموتى ويبعث الراحلين من قبورهم، لأن حياة الفن قد دبت فيهم، وهو فن يكشف الحجاب المسدل على قدرة العيون المبصرة لترى بالخيال والإلهام ما لا يمكن إدراكه بعين الواقع، كالمعجزة التي حدثت للرسول الكريم في ظاهرة الإسراء عندما هيئ له أن يشاهد القدس وأن يعاين مشاهدها ورؤاها وهو في مكة لم يغادرها.
ويختتم العقاد وقفته الشعرية المتسائلة مع فن “السينما توجراف” بالإشارة إلى عصر المعجزات في مجال الصناعة، وهو عصر لن يتوقف عند مدى معين، ما دامت رسل العلم والمعرفة والدرس تتوالى ويتتابع عطاء عبقريتها في مجال الخلق والابتكار.
ولغة العقاد في الشعر تطاول لغته في كتاباته النثرية وتجاوزها قدرا وفنية. إنها لغة شديدة الاقتصاد والإحكام، نافذة إلى صميم الفكرة والمعنى مسلحة بوعي يقظ وتأمل طويل وحراب حادة مسنونة، تغرس نصالها في لحمة الصورة الشعرية وسداها.»
نستطيع أن نقول في نهاية الأمر إنَّ الأستاذ عباس محمود العقاد شاعر ولكن من طرازٍ مختلف لايشبه أحداً من شعراء جيله ؛بيد أن المنحى العقلي طغى على إنتاجه الشعري؛وذلك عائدٌ إلى طبيعته الصَّارمة التي عُرف بها؛
وهو أيضاً ناقدٌ عصامي إن صح التعبير ؛لاتأخذه في الحق لومة لائم؛ ولذلك ظلَّ مؤمناً برسالته التنويرية إلى أن فارق الحياة.
سُئل ذات مرة عن الفرق بينه وبين المفكر والكاتب الإنجليزي برنارد شو. فقال: برنارد شو يقف على أكتاف ستة أجيال من الثقافة الأوربية؛أما أنا فأقف على قدمي..!!
لاغضاضة إذن أن تتجلى صولات الشاعر في عصرنا هذا- أُسوةً بالعقاد-
في ميدان النقد الأدبي ؛إذ المعوَّل عليه في الأساس هي الموهبة التي أودعها الله بين جنبيه؛تليها الثقافة الواسعة ؛والذهنية اليقظة القادرة على استيعاب جماليات التراث؛ والانفتاح على الثقافات الأخرى؛وكذلك كان العقاد رحمه الله.
ولايعزب عن البال أنَّ في التراث العربي قاماتٍ عالية من الشعراء أجادوا البراعة في مجالَيْ الشعر والنثر كالجرجاني علي ؛وأبي هلال العسكري؛وابن سنان؛وابن رشيق؛وابن طباطبا ؛وغيرهم من الأفذاذ!
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله.