تحدثت في مقالات سابقة عن القيفان التي تنظم في منطقة الباحة وأنها شعر شعبي في قصائد مطولة موزونة مقفاة ، وتنظم لأغراض منها تسجيل بعض الحوادث المهمة التي مرت في حياة الشاعر أو التغني بمفاخر القبيلة والعائلة أو النهي عن بعض الأمور التي يرى الشاعر أنها مخلة بالآداب وهناك بعضها تنظم في الابتهالات والتوسل ، ويطلق عليها مسميات منها العزاوي والوسائل ومفردها وسيلة ، ويشتهر بنظم هذه العزاوي عدد من الشعراء أتينا على ذكر بعضهم في مقالات سابقة .
قال ابن خُرمان :
سأقوم في مقالي هذا بشرح القاف الذي نظمه الشاعر عبدالله الشافق رحمه الله لعلي بن محمد بن غلة لالقائه في وقت ختانه وكما ذكرنا أن عزاوي الثلابة يظهر فيها الشاعر مفاخر عائلة الثلاب وقبيلته :
يالله يارب(ن) عظيم العظائمي
يأمن على خلقه رقيب(ن) وقائمي
ويساهر الغرات ماهو بنايمي
عينه على ارض الله والسموات
بدأ الشاعر قصيدته بذكر الله العظيم جل شأنه الذي لا تسهو عينه ولا تنام والذي بيده تدبير خلقه مستحضراً آية الكرسي من كتاب الله تعالى ..
ثم ينتقل الشاعر إلى الدعاء إلى الله أن يغفر ذنوبه التي جرته إليها شهوات النفس ، ويتمنى ألا يكون قد اقترفها وأن يكون خالياً من كل ذنب لكن هيهات لابد للإنسان أن يغلط والله هو الغفور الرحيم:
اطلبك تغفر لي ذنوباً كسبتها
من شهوات في حياتي نحبها
ياليت قلبي عاف عنها وكبها
كنت البري من الذنوب ايهات
بعد الابتهال إلى الله العلي القدير ينتقل بنا إلى كيفية بنائه للقاف والذي حرص أن يكون خالياً من الانتقاد وشبهه في جماله وحسن سبكه بحليب الإبل البارد ، تلك الإبل التي رعت الحيا في ديار بني سليم الهوج – وهذا اللقب لقبيلة بني سليم من زهران لشجاعتهم وبسالتهم – وهذه الإبل من كثرة حليبها يبقى في الأقداح وهي الأواني التي يحتلبون فيها بعد أن يشبع منه الخطور وهم الضيوف :
بنيت هذا القاف وادرِّج القدا
ولا ابقيت فيه النقد للي تنقدا
يحلي كما محض البكار يبردا
رعت من رشا الاجوال ابو السلمات
..
مع سليم الهوج ما صك فالها
واذا الله اعطى الخير ما احلى قبالها
تسري على الحالب تهادر جمالها
قدحانها بعد الخطور تبات
قال ابن خُرمان :
بعد مقدمة الشاعر الجميلة في القصيدة ينتقل بنا إلى الغرض الرئيس الذي بنيت من أجله وهو للشاب علي بن محمد بن غلة والذي سيكون ضمن ( الثلّابة ) والذين شرحنا عنهم في مقال سابق فيتكلم الشاعر هنا على لسانه فيقول أن اسمه ( علي ) وأن قلبه أقسى من الحجر ، و أنه ابن من لم يتخلف عن الواجب مهما كان وقد أعطاه الله الخير والبركة في ماله – وهذه حقيقة معروفة – ، وأنه الكريم في جميع الأوقات خاصة إذا قل ما بأيدي الناس وجار عليهم الزمان:
وانا علي وقلبي أقسى من الحجر
ولد غلام ع المصدات ما انقصر
وجاد عليه الله مايشكي العسر
ماهو كما اللي شح في المال لا كثر
وينتدي لاقلّت الندوات
وينتقل في المقطع التالي إلى ذكر بعض المزارع المميزة التي يمتلكها والده وهي معروفة بأسمائها عند الناس مثل ( حرفات والوالج والصنينة ) ثم يؤكد على كرم والده وسخاء يمينه يعطي دون حساب ومع هذا يتكاثر عنده الخير بفضل الله:
بلاده لها عن بلاد الناس عينه
حرفات والوالج ولا انسى الصنيّنه
لاكن راعيها سخيه يمينه
ويعطي ولا ينقص لها دلفات
ثم يصف استقبال والده للضيوف عند قدومهم ففرحته الكبيرة بهم توضحها تراحيبه التي تشرح الخاطر وتسعده ، ويصف سرعة والده عند اتجاهه لذبح الذبائح وأنه لا يشح أي لا يبخل ولا يتردد عن ذبح الكبير من أغنامه مهما كان سنها حتى وإن كانت أناث لم تقربها الذكور:
وترحيبته يشرح لها الخاطر الوني
ولا انتزى ع المال يعدي وينثني
ماشح في التيس الرباعي ولا الثني
ولا الجفير العقّر العزبات
وينتقل إلى وصف الصحن الذي يكرم فيه ابن غلة ضيوفه ويتمنى أن يشاهد البخيل هذا الصحن الذي لا يستطيع نقله وتقديمه بالطعام إلا عشرين رجلاً ومن شدة ثقل هذا الصحن تتأثر منه سواري البيت، ويذكر كذلك أن البناء والذي كان بالحجر ينتدب ويهتز عند وضع الصحن عليه من كبر ذلك الصحن وثقل ما عليه من الطعام ، ويضيف أنه بعد الفراغ من الطعام تقام في المجلس العرضة واللعب ، وهذا المجلس الذي يصفه في المقطع الذي يليه من القصيدة فهو من بناء والده والذي اهتم بتوسيع المجلس وتزيينه لينال إعجاب الضيوف ففيه السواري الكبيرة وهي الأخشاب القوية التي توضع عادة دعامات لحمل السقف فوق الزفّر، ومن صفات هذا المجلس ايضاً أن عدد الزّفّر أربعة وهي الأعمدة الخشبية التي تحمل السواري ومن فوق السواري خشب السقف وفي هذا المجلس كذلك عدد خمس نوافذ كبيرة موضحاً أن هذه النوافذ والزفر تتميز بنقوشات زاهية تزيدها جمالاً مما يدل على كبر هذا المجلس وسعته والتي يعرفها من عاش او مرّ على هذه البيوت القديمة، ويستمر في المقطع الثالث في توضيح أنه لم يقم ببنائه إلا بما لديه من المال الذي أعطاه الله تعالى ومالديه من الاودان وهي المزارع الكبيرة ولم يكن بالاستعانة بمال الناس أو بالفريكة وهي طلب العطاء من الآخرين، ويذكر عدد بعض المزارع والتي تتجاوز مئة وعشرين مزرعة مابين السراة وتهامة:
وليت البخيل اللاش ينظر لصحننا
يوم قدمه عشرين بين ضيوفنا
تفدّع سواري البيت وانتدب البنا
وظلى وراه العرضه والزلفات
..
في المجلس اللي حافه آبي ووسّعه
وله شروع(ن) بالسواري مقطعه
خمس بدايا فيه والزفّر اربعه
فيها نقوش زاهيه وثبات
..
ما عمره على الكيله والفريكه
الا ع الاودان الطياب المليكه
ميه من الاطراف الى بطن ليكه
وعشرين فودا آبي بعد ميات
قال ابن خُرمان :
وينتقل هنا إلى مكانة والده بين ربعه بالحكم فهم يعتبرونه أحد رؤوسائهم وأعيانهم ويوافقونه في طلباته منهم أو ما يشير به عليهم بل ويلبونها وإن كان تنفيذها في الظلام الدامس ، ويوضح في المقطع الذي يليه أسماء بعض أعيان بالحكم الذي لهم الرأي والمشورة والطاعة عند ربعهم والذين يكونون في مقدمة القوم مثل ( جمعان بن احمد والجعر رحمهم الله ) ثم يشير إلى ما لديهم من الأسلحة من جنابي وسيوف وبنادق تستخدم للعرضات والاحتفالات ولشدة الأمور عند الحاجة :
وهو ريس(ن) واولاد حكما حمايته
ولا فيهم اللي ينتوي قطع ساقته
ولا اهتراهم في قريبه وفايته
تاعوا بها في مغدر الظلمات
..
وولد ابن غله يجبر القوم لاحضر
ويوفيه في الاشوار جمعان والجعر
اذا بدوا بالشور طاعوهم الجبر
اهل سلال(ن) نقلته تعجب النظر
ماهو ب للتعشير والحلجات
ويوضح الشاعر أن هذه الأسلحة التي يتزين بها أبناء قبيلته تستخدم إضافة إلى الاحتفالات في حماية حدود القبيلة من أي اعتداء ثم يضيف هنا قانون قبلي جميل كان يستخدم وهو أن ضمان الشيوخ يوفيه جميع أبناء القبيلة ولا ينقضونه دليلاً على تكاتفهم ويأتي بالمثل القديم ( يحمي على غتات قومي سمانها ) بمعنى أن القوي والغني يعين الضعيف الفقير من القبيلة ويتحمل ما يترتب عليهم عند الحاجة:
الا لحدان الطوارف وامانها
وأن ضمن الشيخان توفي ضمانها
يحمي على غتات قومي سمانها
نهار ظلى الحرب والميلات
ويضيف في المقطعين التاليين أن حدود قبيلته مؤمنة لا يتجرأ أحد بالاعتداء عليها ولم يكن هذا إلا بقدرة بالحكم القتالية والمالية على حمايتها ، ويوضح أنه في الحروب القبليية السابقة جرب أخصامنا قدرتنا وأننا لا نختبي عن القتال ولا نبخل ببذل أرواحنا وأموالنا لحماية حدودنا ( ونحمد الله الذي أنهى العداوات والحروب القبلية بفضل الحكم السعودي المبارك حتى أصبح الجميع إخواناً في وطن واحد ) :
وحداننا بين القبائل ممكنه
ماقرروها بالمدارى ومسكنه
الا ببندق فيه من كل عينه
وبالحكم ترهي له الشدات
..
والله لقاوسنا عميلاً يقوسنا
ولا تندرق عن جور الارشاق رؤسنا
نسخي معابرنا ونسخي فلوسنا
وعلنا نستطلع القالات
قال ابن خُرمان :
ينتقل الشاعر في المقاطع الأخيرة إلى مدح بطن زهران الذي منه بالحكم وقبيلة بني كنانة وهم بني يوس أحد بطون قبيلة زهران الأربعة ( يوس أو أوس ، ودوس ، وبني عمر ، وبني سليم ) ويذكر هنا حدود بني يوس ويشير إلى أنهم اشتهروا بالحكمة وسداد الرأي ، ثم يذكر تاريخ زهران القريب عندما طردوا المحتل التركي من ديارهم ويذكر مواقع المعارك في شبرقة وقوب ورغدان وشبه الحرب بالعروس المتزينة وهجومهم على عدوهم كأنهم متجهين لحفلة العرس حتى قتلوا القائد التركي الذي أطلق عليه لقب ( الباشة ) :
ونحن بني يوس اهل قاله وفتل الشور
وحدنا من البضع الى منزل الصقور
والقاضي من بني يوس والشيخ والقفير
نضحك ونذخر للعميل حنات
..
وفي شبرقه يوم البيارق منصبه
وروحوا الفتنه عروس مثلبه
هبنا لها بين العميلين ملعبه
رمي(ن) وجار الصفق والزلفات
..
وظلوا الاتراك من قوب هاربه
وبندقنا فيهم تهادر مضاربه
والباشة من رغدان قادوا بشاربه
عازوه في روحه وهو ما مات
وكما بدأ القاف بذكر الله تعالى يختمه كذلك بذكره تعالى طالباً العفو وأن يكون ضمن من يشفع لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم يطلب كل من يسمع أو يقرأ القصيدة أن يصلي على رسول الله بل ويكثروا من الصلوات عليه :
والخاتمه من بعد ماقلت م القدى
ذكر الله ربي وشفيعي محمدا
صلوا على المختار ياكل عابدا
واحبوا اليه الذكر والصلوات
اللهم صلٍ وسلم وبارك على نبينا وسيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين .
ختاماً :
أتمنى أن تكون الصورة اتضحت للقارئ الكريم ، والحمد لله رب العالمين .
– الدمام