المقالات

حياة مؤجلة !

“حجلا التاريخية”القرية التي حملت إرثاً تاريخياً وقيمةً حضاريةً، ولها سهم كبير في صناعة المجد في تاريخ المملكة الحديث هذه القرية ورغم مساحتها الجغرافية المتواضعة إلا إنها خرجت عن اطارها الضيق وزاويتها المغلقة إلى فضاء أرحب وباحة أكبر ضمت تلك القرية العديد من الأسر العريقة ولكل إرثه ومفاخره.

احتضنت تلك القرية أحد وجهائها وشيخ كبير من شيوخها الذي خلّف أربعة من الأبناء وبنت واحدة كعائلة صغيرة شكلّت مستقبلًا ثقلاً وإرثاً يستحق الإشادة وجدير بالذكر.

بدأت تلك العائلة كغيرها في سلم الاتساع فتزوج الأبناء جميعهم وأصبح البيت الصغير بيوت متعددة متقاربة وأرواح متجذرة ببعضها، ولكل تسلسل جديدا وعائلة كبيرة لأب واحد.

 وأصبح الحي يعج بتلك العائلات الأربعة بحياة بسيطة مفعمة بالألوان الزاهرة والتباين الملهم ولعل التعاون سيد الموقف.

تلك البيوت الأربعة تعيش حالة من الارتباط الذي أسسه الأوائل وسعى من بعدهم ليكون الحال أكثر ترابطاً وعاشت مسؤولية المشاركة والروح المقدامة في رحاب ذلك المكان واستثمروا البسيط للحفاظ على الكبير.

فساعات ما بعد العصر مثلا قد تشكل الوقت الذهبي في ذلك اليوم بما فيها من اجتماع الكبار والصغار ومزاورات الأمهات لبعضهم ولعب الأطفال في تلك الساحات الواسعة.

منازل بأبواب مفتوحة رجال كرماء ونساء عظيمات كل هذا من اجل ان يكون العطاء والبذل قيمة تشاركية لا يختص بها أحد دون الاخر فهنا الجميع يملك أن يصنع بصمته بطريقته.

نعم، أنا ابنة أحد أولئك الأبناء الأربعة الذي شكلوا “حجلا” في ذلك الزمان وهو الأب والمربي و المعلم محمد آل شيبان والذي يذكره الكثير من تلك الأجيال التي خرجت من تحت يديه حيث كان مربيا قبل أن يكون معلماً وهذا ما عرفناه عنه وما حكاه من كان طالبا في صفه، وهو من قضى عمره مصلحاً بين الناس مقيماً على حاجاتهم و خاصة بعد ما كُلِف نائبا لحجلا بعد وفاة أخيه.

الرجل الذي حاز المحبة والمهابة وصنع طريقه بنفسه، بل وأغدق على من حوله ليصنع بصمته ويحيي ذكره ويبني قيمة في ذلك المكان، بقدر ما جمع من الرحمة في قلبه فقد جمع لها توجيها يصلح به حال من أخطأ، وحجة ينافح بها في الإصلاح بين الناس وأعجز هنا حقيقة عن سرد المآثر فهو أبي، ولكن من يعرفه وينصفه سيذكر أكثر مما أعرفه.

لا أنسى تلك الحياة وما فيها من بساطة، حياة عشناها ونتشارك كبيرها وصغيرها، فكما تشاركنا الطعام وتداولنا فائضه فقد تشاركنا الاواني وحتى الملابس بكل ود ومحبة، وتأسست معاني التعاون كأجمل صورة يمكن أن تروى.

وهل يمكن أن ننسى ليلة العيد؟

 وما فيها من اتفاقيات ومعاهدات على زي موحد وتوزيعات موحدة وهوية خاصة.

نشارك الأمهات في وضع الحناء كأهم فقرة تثبت دخول العيد علينا، بعد ما يتم غسيل الأحواش وتنظيف المنازل لتبدو الحارة من الخارج وكأنها تلقت غيثا منهمرا لساعات متواصلة .

نشأنا مع رجال (أب وأعمام) عظماء وأمهات عظيمات، وتعلمنا منهم كيفية العطاء بلا حدود ومساندة بعضنا، ومساعدة الناس بلا توقف، تعلمنا منهم الشهامة والكرم والقوة (وكيف تفتح الأبواب ولمن تفتح.)

تعلمنا منهم الضمير الحي المسؤول الذي لا يمكن أن يقترف الخطأ في حق غيره.

نعم ربما تذهب وتعود الأحداث، ولكن لن تمحى تلك الذكريات أبداً، بل وأدعو الله أن تعود أجمل مما كانت.

كبرنا قليلا عشنا وكأننا لن نفترق أبدا، سعداء جدا وكأن الحزن لن يعرف طريقه إلينا، وفي عام ١٤٢٢ هـ تلقينا وفاة أكبر الرجال الأربعة عمي الشيخ سعد آل شيبان نائب حجلا الكبير المعروف بوجاهته وثقل مكانته ولا زالت الصورة ضبابية في مخيلتي عن أيام العزاء والتي لا أذكر منها إلا ازدحام شديد وكثرة السيارات في الحي وتجاوز العزاء أكثر من ثلاثة أيام، فرحمة الله عليه لا زالت ابتسامته وحضوره عصية على النسيان، ولم أكن أعرف حينها الفقد ولا شكله، لكنه على أية حال طرق الباب الذي كنا نظنه لن يطرق وقطف أول روح، واستمرت الحياة بوجود الحزن وبغيره، وكبرنا وزاد الأحفاد وانتشرت العائلة وتعددت فروعها و أغصانها.

وبعد أربع وعشرين عاماً من ذلك الحزن عاد الموت مجددًا ليأخذ ابنة عمي سبرة بنت عبدالله بعد أن ابعدها المرض وعبث بها السقم وأكثر ما يواسيني إنها في أحلامي أراها واحاكيها بابتسامتها المعهودة وضحكتها الصادقة و أتلمس قلبها الممتلئ بالبياض.

استمرت الحياة بأجسادنا المنهكة والقلوب المتعبة، وتكدس الخوف في حياتنا ومزقنا الألم، لم نعد بذات الروح الأولى التي عرفنا، ولم تمض ثمانية أشهر من ذلك التشافي حتى تلقينا فاجعة رحيل ابن العم أحمد بن علي الذي رحل متخففاً من العتاب بصمت وهدوء كالحمام الذي لا نعرف عنه سوى التحليق والسلام.

كبرنا مع الحزن  بعمر افتراضي ، وكل ما مضى محاولات للولادة من جديد.

وعاجلا أو آجلا سنجثو على الأرض باكين من عوض الله وقوة تباشيره، وكلي يقين بعودة الأيام المبهجة حاملة لنا حياة نستحقها مرة أخرى كما كنا، وما مضى ليس سوى غيمة سوداء كانت تعلو هذا الحي وقريبا ستنكشف وتأتي لنا السماء بغيث محمل بالرحمة والبركة والرضا، كما إني لا أريد للحزن أن يصبح رفيقًا نعتاد عليه، بل محركا ليحول الأزمات إلى نافذة مفتوحة نستقبل فيها الشمس بأرواح  متجددة كروح طفل مبتهج، ولن ندع الخوف يتمكن من إيقاع ذواتنا وسرقة حياتنا.

مهما بلغ الحزن والأسى في حياتنا سنبقى لبعضنا عمودا فقريا، ومهما توالت الأحداث سنكون منتصرين ببعضنا بشدة.

الحياة تصنع الحزن نعم، ولكن تصنع معه روح تتخطاه وقلب معلق بالله يملك من اليقين ما يجعله يتخطى كل شيء وخلف تلك الدمعة رحمة واسعة وصباح مشرق.

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. كلماتك رائعة وأسلوب السرد لديك جميل، روحك العطره منبثقه من كل حرف تكتبينه فهو يدل على صفاء قلبك وذهنك واخلاصك في الكتابه إلى الامام دائماً رقيه،،

  2. جميل هذا الطرح الذي بدأ بوصف أهم قرية في منطقة عسير
    من ناحية موقعها وتاريخها قديماً وحديثاً
    ومن ثم شاهدنا كيف تكونت أسرة آل شيبان العريقة
    في حجلاء التي كانت من أربع رجال وإمراة.
    رحم الله الشيخ سعد جئت إليه ليختم على أوراق لدي فيحاورني بكل رحابة صدر..
    أما والدك محمد فهذا والدنا ومربينا
    لازلت أذكر توقيعه على دفاترنا وأذكر تشجيعه لي
    وكنت من الأوائل عنده وكان مشرف فصلنا عام ١٤٠٦هـ وأنا في الخامس الإبتدائي.
    وأذكر انه جاء لنا بصور رحلتهم إلى مكة في ذلك العام وكذلك صعودهم إلى غار حراء.
    ولأول مرة أشاهد غار حراء في تلك الصور عسى أن يتم إخراجها.
    ورحمة الله على إبنة عمك سبرة وعسى ما أصابها أن يكون تطهيراً لها ورحمة الله على أحمد بن علي بن شيبان وغفر الله له وأحسن الله عزاءكم..
    هكذا هي الحياة نحتاج أن نتهيأ لكل يوم نتهيأ لأي لحظة فيها الوداع.
    محمد علي ابوظهر الغامدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى