لا شك في أن العلماء المسلمين منذ القدم، ساهموا في تطور البشرية؛ إذ لهم إسهامات جليلة في مختلف العلوم، في الطب والفيزياء والرياضيات والكيمياء، وحتى في أحدث العلوم اليوم كعلم الحاسبات.
بدأت رحلة الخوارزمي في بغداد؛ حيث كان يعمل في مكتبة دار الحكمة، وهو مركز متخصص للعلوم والمعارف في العصر العباسي آنذاك؛ يُناظره اليوم كلٌّ من مكتبة الكونجرس الأمريكية، والمكتبة الوطنية البريطانية على سبيل المثال.
كانت إسهامات الخوارزمي في علم الخرائط والفلك والرياضيات؛ ومن أعظم مؤلفاته كتاب (الجمع والتفريق في الحساب)، والذي تم اكتشافه بعد ثلاثمائة عام من تأليفه، وتمت ترجمته إلى اللغة اللاتينية؛ حيث رأى الأوروبيون فيه كنزًا عظيمًا، وبسببه استبدلوا الأرقام الرومانية بنظريتها العربية، ولأول مرة تعرفوا على الفواصل العشرية، وعرفوا علم الخوارزميات.
صحح الخوارزمي أبحاث العالم الإغريقي بطليموس عالم الفلك الذي كان يقوم بملاحظة النجوم والقياس، ونشر الخوارزمي أول خريطة للعالم، استخدمها لاحقًا الرحالة الإيطالي كولومبس في اكتشاف ما يعرف اليوم بالقارة الأمريكية التي نشرت في كتاب الخوارزمي في الجغرافيا (صورة الأرض)، والذي تم ترجمته في أوروبا آنذاك أيضًا إلى اللغة اللاتينية.
وفي القرن التاسع الميلادي، اهتم الخوارزمي وطوَّر مفاهيم متنوعة منها: الأشكال المثلثية، والمسافات، والارتفاعات، ورسم الخرائط. كان الخوارزمي باحثًا في المعارف اليونانية، وأنشأ علم الجبر، وانتقلت هذه الكلمة إلى العديد من اللغات الأخرى؛ إذ ألف كتاب “المختصر في حساب الجبر والمقابلة”، ويعتبر أول دراسة منهجية لحل المعادلات؛ إذ تمحورت أعمال الخوارزمي في تطوير وتجميع المعلومات والمعارف التي كانت عند الإغريق، وأعطاها طابعًا إسلاميًا مُشرفًا؛ فهو الذي قام بالتطوير وأضاف العدد (صفر) الذي يستخدم حتى اليوم، إذ كانت اللغة العربية هي لغة العلم في ذلك العصر.
كان أهم إنتاجه البحثي والعلمي بين عامي 813م و833م في مكتبة دار الحكمة، وكانت تدرس مؤلفاته في أوروبا حتى القرن السادس عشر، إذ كان للعالم المسلم محمد بن موسى الخوارزمي والذي لقب بـ(أبو الرياضيات) و(أبو الجبر)، و(أبو الحاسوب الحديث)، و(الجد الأكبر لعلوم الحاسوب)، إسهامات جليلة في وضع مجموعة من الخطوات الرياضية والمنطقية والمتسلسلة لحل مشكلات معينة، وهذا هو تعريف مفهوم الخوارزميات، تمامًا كما يقوم به اليوم في العصر الحديث مُحلل الأنظمة وعلم نظم المعلومات.
كان لمفهوم الخوارزميات انعكاس وتحول جوهري في القرن العشرين؛ إذ قام عالم الرياضيات البريطاني ألن تورنغ رائد علوم الحاسبات النظرية والذكاء الصناعي بإنشاء نموذج لصنع آلة تقوم بحل مسائل رياضية معقدة وفقًا لمجموعة من الخطوات الرياضية المنطقية المتسلسلة، واعتبرت تلك الآلة أول نموذج للحاسوب، وفي حماية الاتصالات مثال آخر، إذ استخدمت آلة إنجما بواسطة الألمان في حماية الاتصالات، وتدفق المعلومات؛ إذ قام بحل شفرة آلة إنجما، عالم التشفير ماريان آدم البولندي في أواخر عام 1932م، وكانت هذه الآلة تُعنى بالتشفير والتي كانت مزيجًا من الأنظمة الفرعية الكهربائية والميكانيكية تمامًا كما يقوم به اليوم في العصر الحديث مصمم الأنظمة وعلم نظم المعلومات.
كان الخوارزمي مولعًا بتضمين الرسائل بالأمثال والحكم بعناية شديدة، كما كان أديبًا أيضًا؛ إذ كان من أقواله: (الشكر على قدر الإحسان … والتقاضي حيث التغاضي، النفس مائلة إلى أشكالها، والطير واقعة على أمثالها..). وقال أيضًا: (لست أبيع البدر بالبدرة)، وكان الخوارزمي لا يكتفي بمثال واحد في الموضع الواحد، بل كان يجمع العديد من الأمثال والحكم والأشعار في الرسالة الواحدة. فهل كان الخوارزمي أيضًا من المُلهمين والمؤسسين لعلم التشفير في العصر الحديث؟! أم إنها إحدى المفارقات التاريخية!!