الكتابُ.. ذلكَ الصاحبُ الذي لا يُمَلُّ، والصديقُ الذي لا يُسأَمُ، والرَّوضةُ التي لا تَذْبُلُ أزهارُها، ولا تَسْكُتُ أطيارُهَا، والكنْزُ الذي لا يُنْقِصُهُ إِنفاق، ولا يُخشى عليه مِنْ اللُّصُوصُ ولا السُّرَّاق.
ظلَّ الكتابُ على مرِّ تاريخِ الإنسانِ مستودعًا لأفكارِهِ، وناشرًا لأسرارِهِ، يَسقيهِ العالِمُ، ويَسْقي هو المتعلِّمَ، يخلو به المرءُ فتُطْوَى لهُ الأزمانُ، وتُطِلُّ عليهِ الدُّهُورُ، وتناجيهِ العِبَرُ، وتُشْجِيْهِ العِظَاتُ، وتَصْقُلُهُ التجارِبُ، وتُدْهِشُهُ العجائبُ. ومِنْ هُنا كان (الكتابُ) سميرَ الباحثِ، وأنيسَ العالمِ، يَحْرِصُ على اقتنائِهِ، ويبذُلُ الغاليَ والنفيسَ للحصولِ عليهِ، وكم في تُراثِنا من صورٍ مشرقةٍ من هذا الحرصِ على الكُتُبِ، والجِدِّ في جمعِها.
وإذا كانَ تاريخُنا الإسلاميُّ غنيًّا بالمكتباتِ العامَّةِ الكبرى، كبيتِ الحكمةِ في بغدادِ، ودارِ الحكمةِ في القاهرةِ، ومكتبةِ الخلفاءِ الفاطميينَ في القاهرةِ، والظاهريةِ في دمشقَ، وغيرِها فإنّه غنيٌّ أيضًا بالمكتباتِ الخاصةِ التي أسَّسَها رجالٌ أَخْلَصُوا للعلمِ، وأَرْخَصُوا لهُ مالَهُمْ وجاهَهُمْ، كمَكتبةِ الخليفةِ الحكمِ في الأَنْدَلُسِ، وقد كانَ فيها أربعُمائةِ ألفِ مجلدٍ، ومكتبةُ الفتحِ بنِ خاقانِ وقد قيلَ: إنّه اجتمعَ فيها ما لم يجتمعْ في خِزَانةٍ قطُّ، ومكتبةُ جمال الدينِ القِفْطِيِّ الذي شُهِرَ بتتبُّعِهِ للكتبِ ومرضِهِ عندَ فَقْدِها، ومكتبةِ بني عمَّارٍ في طرابلس وكان فيها مئةٌ وثمانون ناسخًا ينسخونَ بالليلِ والنهارِ، ومكتبةُ ابنِ الخشَّابِ النَّحْويِّ، وكانَ من أولعِ الناسِ بالكُتُبِ.
والمكتباتُ الخاصَّةُ ذاتُ نَكْهةٍ قد لا نجدُها في المكتباتِ العامةِ، ففيها النوادرُ التي يقتنصُها أصحابُها، وفيها تعليقاتُ أَرْبَابها من العلماءِ والأدباءِ، وفيها أيضًا الوثائقُ والمراسلاتُ والمكاتباتُ التي ترتفعُ قيمتُها بقدرِ ارتفاعِ قيمةِ أصحابها.
وقد شهدتْ مكةُ المكرمةُ سلسلةً طويلةً من المكتباتِ الخاصّةِ المذكورةِ قديمًا وحديثًا، كمكتبةِ الأميرِ شرفِ الدينِ والتي تأسست في العام 367هـ، وكانت في أحد البيوت المطلة على الحرم المكي الشريف قُرب باب السلام، ومكتبةِ مؤرخ مكة تقيِّ الدينِ الفاسيِّ، ومكتبةِ الكُرديِّ، ومكتبةِ الشيخ محمد سرور الصبان، ومكتبةِ الشاعرِ إبراهيم الغزاوي، ومكتبةِ الشيخِ علوي شطا ومكتبة أحمد عبد الغفور عطار ومكتبة عاتق البلادي ومكتبة القاضي الشيخ محمد بن هديهد الجهني والشيخِ عبد الله بن دهيش، والشيخِ حسن مشاط، والشيخِ حسين فدعق، والأستاذِ أحمد محمد فقي وغيرهم.
إنَّ هذه الكنوزَ الهائلةَ من المكتباتِ الخاصَّةِ المكية والتي أُنشأت بجهود فَرّدِية ذاتية مشكورة من قبل أصحابها؛ تستحق منا الإشادة لما كان لها من دور كبير في اكتشاف أصحاب المواهب المختلفة لكي يقوموا بدورهم في تنمية أفراد المجتمع، وكذلك في نشر التنمية الثـقافية بين أبناء هذه المدينة المقدسة.
0