المقالات

اللغة العربية والنهضة

لا توجد أمة حية ناهضة غرّدت في سماء النهضة الحقيقية بغير لغتها الأصلية، فاللغة ليست حروفًا صمَّاء مُجردة من المشاعر وسبحات الفكر، لا بل تجاوزت إلى ما هو أعمق فيما يُطلق عليه (فقه اللغة وفلسفتها)، ولا يخفى أن النهضة الحقيقية لأي أمة مرتبطة بدينها، وهويتها، وتاريخها، وتراثها، ولغتها، والفصل بينها وبين قواسمها المشتركة الآنفة الذكر، معناه اليتم والتسوَّل والأسر الحضاري، ومن العجب أن تكون اللغة العربية ثانوية في العالم العربي الإسلامي، وتنحى جانبًا رغم ما تملكه من خصائص وعبقرية، وعُمق، وسعة، وتاريخ حضاري باذخ وشامخ، لا تساميها أي لغة في العالم قط، وباستقراء الأمم الناهضة اليوم لا نجد أمة، نحَّتْ لغتها جانبًا ونهضت على لغة غيرها، بما في ذلك أوروبا التي تشترك في اللغة اللاتينية الأم، مع تقاسمها جميعًا في حلف عسكري، وسياسي، واقتصادي، وثـقافي، وإعلامي، ومحكمة عُليا، وبرلمان موحد، ورغم ذلك كله، فلكل دولة لغتها الخاصة، ولا نذهب بعيدًا فدولة اليهود استطاعت إحياء لغتها الميتة، والتي كانت محصورة بين المدارس والكنيسة إلى لغة الذرة والصناعة والتجارة، والأمن والإعلام والسياسة.. إلخ وبالذات للعالم العربي بكامله، بينما بقي العرب في ذيل القافلة وأسرى الاستعمار الثقافي ذات الأبعاد السياسية والثقافية والعسكرية ينخر في بنيتها الظاهرة والخفية، وأفرغت ثرواتهم ومواقعهم الاستراتيجية والثقافية والدينية من محتواها بسبب الغربة اللغوية، ولولا فضل الله ثم القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، لما بقي للعرب رسم ولا اسم، وكانت النتيجة الانفصام النكد بين التعليم الشرعي ولوازمه اللغوية، والتعليم المدني في العالم العربي والإسلامي، وما لم يتم اعتماد اللغة العربية لغة للفنون والعلوم بمختلف مسمياتها وتبقى اللغات الأخرى وتعلمها، للترجمة والتواصل مع العالم الآخر، فسيبقى العرب يتامى الفكر متسولين، يتكففون على موائد ثقافات الأمم كالأيتام على موائد اللئام ، مع الخسائر الأخرى في كل مناحي الحياة، ومما فاضت به القريحة في هذا المقام.

أبكي على الجِيلِ وأسْمُوا رافعًا أبدًا
نحوَ الشُّموخِ بحرفِ الضادِ تبيانا

أُمُ اللغاتِ إذا عُدَّتْ مَناقُبُها
وحَسْبُها في كتابِ الله فُرقانا

سادتْ قُرونًا على الآفاقِ ناشرةً
كُلَّ العُلومِ دلالاتٍ وبُرهانا

ووحَّدتْ أُمّةً سارتْ مراكِبُها
بينَ المَشارقِ تعليمًا وإيمانا

وطَوَّرَتْ مأْثَرَ اليونانِ سائرةً
واستنهضتْ أُمةً وعيًا وعُمْرانا

لَن يَنهضَ العُرْبُ نحوَ المجدِ قاطبةً
بغيرِضادٍ لحرفِ سادَ أوطانا

ونوَّر الكونَ بالأفكارِ سائرةً
مِن مَشرِقِ الأرضِ حتى الغربِ تبيانا

حرفٌ بنى بَيْننا مجدًا ومأْثَرةً
وأَهَّلَ العُربَ ساداتٍ وعُنوانا

يا مَعشرَ العُربِ وَصْفُ الضَّعفِ
مَنزِلُكم
حتى تكونوا لحرفِ الضادِ مِعْوَانا

لازالَ حرفًا يُميطُ الجهلَ مُعجزةً
آيُ الكتابِ بِرقْمِ الخُلدِ يرعانا

يا معشرَ العُرْبِ سِيروا نحوَ نهضتِكم
وعَظِّموا حَرْفَها دِينًا وإيمانا

تاللهِ لن تُعتَقوا مِنْ وَصْفِ ضَعفِكُم
حتى تُعيدوا لِحرفِ الضادِ ميزانا

يَقودُكم حَرفُ ضَادٍ عندَ منزِلكمْ
وتَلْتَقُوا عِنده في الوَصفِ فُرسانا

أ.د. غازي غزاي العارضي

استاذ الدعوة والثقافة بجامعة الاسلامية وجامعة طيبة سابقا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى