الاحتفاء بالرموز عادة حضارية منتشرة في جميع الأمم والشعوب، وما عقد سوق عكاظ وتنافس الشعراء فيه، وترشيح المعلقات إلا احتفاء بالإبداع الشعري، والتشجيع على التنافس في ميدانه، وما وجود الجوائز العالمية مثل: جائزة نوبل وجائزة الملك فيصل وغيرها من الجوائز إلا احتفاء بالرموز، كلٌّ في ميدانه.
والأمم تحتفي بالرموز للتشجيع على التنافس في العطاء والإبداع، وصناعة القدوات في الميادين المختلفة مثل: الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء، والأدب والتأليف وخدمة المجتمع.
وكل ميدان له فرسانه ورموزه، والشعر الشعبي واحد من تلك الميادين، فلا زلنا إلى اليوم نستمتع بأشعار رموز ماتوا منذ زمن من روَّاد هذا الشعر مثل: ابن ثامرة والزرقوي، والغبيشي وعلي جماح وعيفان الجعيرة، والزبير وجريبيع والمالحي وغيرهم.
ومن أبرز رموز هذا الميدان الذين خدموه لأكثر من نصف قرن بإبداع، وتميز الشاعر الكبير الرمز عبدالله بن عيضة البيضاني، فالجماهير الذين يحضرون في الحفلات التي يكون حاضرًا فيها يجدون المتعة والجزالة والحكمة وقوة الإلقاء والإبداع في أروع صوره، ولقد قدَّم البيضاني لهذا الموروث ما يستحق عليه التكريم، والغالبية العُظمى من الشعراء والجمهور المتذوق للشعر يعترفون له بذلك، ولا يجحد ذلك إلا أعمى، أو جاهل أو مُغرض أو شخص لا يفهم شيئًا في شعر العرضة، ولا يعرف شيئًا عن مبانيه ومعانيه، ولا ننكر أن هناك شعراء مبدعين يستحقون الاحتفاء بهم، ولكن الاحتفاء بالرموز لا يتم دفعة واحدة كما أن الجوائز العالمية لا تُعطى لكل من يستحقها دفعة واحدة، ولكن يتم اختيار واحد في كل ميدان لكل عام، وقد يشترك في الجائزة الواحدة أكثر من شخص، ولكنها لا تعطى لجميع من يستحق في وقت واحد، والبيضاني من أقدم الشعراء ومن أكثرهم إبداعًا ومن أكثرهم أدبًا وأنبلهم أخلاقًا، ويعتبر واجهة مشرفة لقبيلته بيضان، ولجميع قبائل زهران ولمنطقة الباحة وللجنوب كافة، وخاصة عندما كان يحضر في مهرجان الجنادرية التراثي، ويُمثل الباحة ويشارك في احتفالات منطقة عسير.
وحديثي عن البيضاني قائم على معرفة قديمة وتتبع لمسيرته وإبداعاته، ولا أنكر إعجابي وتقديري واحترامي لزملائه المبدعين من الشعراء في جميع المناطق.
لقد عرفت الشاعر الكبير عبدالله البيضاني في عام ١٤٠٢ وكنت أيامها مبتعثًا للدراسات العُليا في الولايات المتحدة الأمريكية، وحضرت لقضاء إجازة الصيف، وكنت أسمع عنه قبل ذلك، وأن شاعرًا فذًا يشق طريقه إلى القمة.
كان الحفل الذي حضر فيه البيضاني عند الشيخ خضران بن أحمد بن حمود -رحمه الله-، أحد موظفي أرامكو القدماء، وكان الزواج لاثنين من أولاده في مخيم وميدان بجوار بيته في قرية الحمود، إحدى قرى القسمة.
كان البيضاني يلبس بشتًا برتقاليًا، وكان نحيفًا ويتمتع بحرية لافتة للنظر، ويدخن بشراهة، كان معه في ذلك الحفل كل من الشاعرين الكبيرين عيضة بن طوير وسعود بن سحبان -رحمهما الله-، وقد كان حفلًا مميزًا أثبت فيه البيضاني حضوره وقوته الشعرية، ولفت انتباه الكثير من الجمهور الذي يراه لأول مرة.
ومن القصائد التي قالها في ذلك الحفل ولا زلت أتذكرها قوله:
ليتني أدري لا كبرنا وشيبنا
بيش نوصي بعضنا وش نعلم به؟
وبدع قارعة يقول فيها:
لو يكن حيلتي تاجي بشيخ الجن
كان ما عاد في الدنيا ولا جني
غير ضاع البصر يا سيد السادة
عاشت الجن في جنب المجانينا
ورد عليه ابن طوير ولكني لا أحفظ رده.
وكانت قارعة استمروا عليها بعض الوقت، ومما قاله سعود بن سحبان -رحمه الله-:
يا جمل قد سرى ليلٌ وليلٌ دن
وأنا ما ودي اصفرق ولا آغني
كيف يهدر جملنا والنمر صاده
النمر ما يفكه بين نابينا
ورد ابن طوير يقول:
الله يا ليت لك رُبه ولي لندن
كنت تصبح غناوي وانت متغني
وين صاروخك اللي ونّ مرصاده
إثر ما شرك إلا بيننا بينا
وكان حديث الإعلام في تلك الأيام عن المجزرة التي ارتكبتها قوات حافظ الأسد ضد الفلسطينيين في تل الزعتر في لبنان، وكأن البيتين الأخيرين من رد ابن طوير يُشيران إلى ذلك.
ومع الأيام يصعد نجم البيضاني ويتألق، وقد شكَّل مع ابن مصلح ثنائيًا قويًا استمر ثلاثة عشر عامًا تقريبًا، وقد سُئل ابن مصلح -رحمه الله-: ألا تخشى الشعراء عندما تكون خارج منطقة الباحة؟ فكان رده:
كيف أخشى الشعراء ومعي فرخ البلجيكي!!! يقصد عبدالله البيضاني.
وبعد أن انفصل عن ابن مصلح شكَّل ثنائيًا مع عيضة بن طوير -رحمه الله-، وقد كان من أقوى الثنائيات التي عرفتها ساحة العرضة.
ويأتي أبو ماجد إلى الرياض في دراسة لمدة ثلاث سنوات في معهد الإدارة، فتتكرر لقاءاتنا به، في منزلي ومنازل كل من الإخوة د. محمد بن علي زاهي -رحمه الله-، والأستاذ أحمد بن سالم بن غانم واللواء الدكتور صالح بن فارس، والأستاذ محمد بن حسين والأستاذ محمد بن محفوظ وغيرهم وفي منزله هو بحي المربع.
كانت تلك الجلسات مليئة بالشعر والقصص والحكايات المختلفة، والمحاورات إذا وجد من يقول الشعر مثل الشيخ إبراهيم حمدان من أولاد سعدي، والدكتور عبدالله بن عايض العَمْري، وكان وقتها طالبًا للدكتوراة في جامعة الإمام، وكان لي شرف الإشراف على أطروحته للدكتوراة.
وذكر لنا البيضاني في تلك الفترة الكثير من القصص والحكايات التي مر بها شخصيًا، وأذكر من ضمنها أن البيضاني حدثنا عن بداياته الشعرية، وقال إنه كان في قلوة في عام ١٤٠١ يبيع التمر، وجاءهم الخبر عن حفل في الحجرة فيه حوقان وابن طوير، وقال من نقل لهم الخبر: إن هناك ثعبانين يظهران على صدر حوقان عندما يقصّد…
يقول البيضاني اشتقت أن أحضر هذا الحفل وأرى هذا المشهد، وبحثت عن من يوصلني إلى الحجرة، فلم أجد، فجاء شخص وقال: تعطيني ٤٠٠ ريال وأنا أوصلك، وكان ذلك المبلغ هو كل ما معي من بيع التمر، فوافقت، وكان هذا الرجل يعرف الطرق المختصرة وكانت جميع الطرق ترابية (جلَد). وصلنا ووجدنا الحفل قائمًا ولكن حوقان لم يكن موجودًا، وكان هناك عيضة بن طوير وأخوه منصور، وعلمنا أن بعض الشعراء قد انسحبوا من الحفل لعدم قدرتهم على مجاراة ابن طوير.
يقول البيضاني: عندما أقبلت على الحفل شعرت أن شعر رأسي وقف، وأخذت أتحسسه بيدي من فوق غترتي.
بعد أن وصلنا، دفعني مرافقي وبعض الحضور إلى وسط الحفل، وقالوا: هذا شاعر ويمكن أن يُشارك، وجاء الشيخ سعد الطيار -حفظه الله- وألح عليَّ أن أشارك، فدخلت في محاورة مع ابن طوير الذي طلب من أخيه منصور أن يجلس على الكرسي، ويبقى حكمًا بيننا.
كانت محاورة راقية وقوية ولها تسجيل في اليتويوب لمن أراد أن يستمع لها بعنوان أول لقاء بين ابن طوير والبيضاني.
يقول البيضاني: بعد الحفل أردت المغادرة، فحلفوا عليَّ لأبقى، وبقيت معهم لما يُقارب الأسبوع، جاءني فيها مبلغ يفوق مكسبي من التمر بأضعاف مضاعفة، وكان للبيضاني محاورات قوية مع الشاعر الكبير حوقان المالكي، ولا يزال الناس يرددون بعض قصائدها، وله محاورات راقية وقوية مع الشاعر المبدع الدكتور عبد الواحد بن سعود بن سحبان، وكوَّن الاثنان ثنائيًا متقطعًا، ولكن الحفلات التي أحيوها كانت مميزة وقوية وجذبت الكثير من محبي الشعر الجيد، وللبيضاني محاورات مع جميع شعراء الجنوب تقريبًا من الطائف إلى عسير مثل: ابن عياد والمسيلي وابن حوقان، وزعكان ومصلح الساعدي وابن عقاب وأحمد الذبياني، واللخمي والشيخي وهذال، والحريري والكناني وأبو علاج وهميل، وعايض بن نايف وابن عزيز وابن هضبان وابن ثايب والخراشي، والسالمي والأحمري وابن غنيم وغيرهم…
ويعود أبو ماجد إلى منطقة الباحة، ويتم تعيينه منسقًا لبرنامج المدن الصحية في منطقة الباحة، وكان مكتبه في مدينة المندق باعتبارها ثاني مدينة يطبق فيها برنامج المدن الصحية بعد البكيرية، ويتم عقد ندوة تشاورية في القاهرة حول المدن الصحية من قبل منظمة الصحة العالمية، قطاع شرق المتوسط وكان رئيس المكتب هو معالي د. حسين الجزائري وزير الصحة الأسبق في المملكة العربية السعودية، وكان شعار منظمة الصحة العالمية في تلك السنة (في الحركة صحة وبركة)، وقد زرنا الدكتور الجزائري في مكتبه في مصر الجديدة، وحثنا على ممارسة المشي، وذكر لنا أنه يمشي كل يوم ما يُقارب الساعة.
وكانت مشاركة أبو ماجد في تلك الندوة عبارة عن قصيدة عن المندق مدينة الطبيعة الخلابة ومدينة الضباب والسحاب، ويؤسفني أنني لا أحفظها، وقد غناها بصوته الرخيم والأخاذ، وكان الحضور متنوعًا من جنسيات عربية مختلفة، ومعظمهم كان من مصر، وكان من ضمن الحضور دكتور من السودان الشقيق أخذ يتمايل مع الصوت، وأبدى هو وغيره إعجابه بالقصيدة وبالإلقاء، وكانت وصفًا جيدًا لمدينة المندق، المدينة الصحية الجميلة.
والبيضاني يُذكرنا في بعض شعره بالمتنبي، فهو يعتز بموهبته وبقدرته وبقصائده التي سارت وانتشرت في جميع أرجاء الوطن تقريبًا، وشهد له عدد كبير من الشعراء منهم: خلف بن هذال وابن طوير، وحوقان وسعود بن سحبان، وابن ثايب وابن هضبان وابن عزيز، وابن عياد وغيرهم. ومن قصائده التي تعكس اعتزازه بنفسه قوله:
غنت الشعار باسمي من شرور لـ”القضيمة”
وانت من انت بزايدٌ ع الناس حالك حالها
والبيضاني يلقب بزعيم القصايد، وهذا اللقب جاء من قصيدة له يقول فيها:
ما نا القصيبي ولا الشثري ولا باعشن
انا (زعيم القصايد) مثل ما تعرفون
تراني ادعس على الزلات تحت القدم
واعط المطاليق واجبها ومقصودها
والبيضاني صاحب أخلاق نبيلة، وأدب جم، واحترام للصغير والكبير، لم نسمع منه كلمة نابية طيلة هذه الفترة الطويلة التي نعرفه فيها، حتى مع الشعراء الذين يستفزونه، كان مؤدبًا احترامًا لنفسه ولأصحاب الحفل وللجمهور، وسلاحه للرد هو الرمزية ودفن المعنى كما يقولون، وبعض الشعراء عندما يشعر أنه لا يستطيع مجاراة البيضاني يفتعل مشكله؛ ليخرج نفسه من ذلك الموقف المحرج، وبعضهم إذا أراد أن يشتهر حاول مزاحمة البيضاني ليلفت الانتباه إليه، وكأنه بهذا يذكرنا بقول المتنبي:
أفي كل يومٍ تحت ضبني شويعر
ضعيفٌ يقاويني قصير يطاول؟!!
كما يتصف البيضاني بحساسية مُفرطة لما يسمعه من كلام أو ما يُشاهده من حركات، وهذه الصفة متعبة له ولمن يتعامل معه، كما أننا لا نبرئ البيضاني من بعض جوانب النقص، فلكل إنسان عيوبه والكمال لله سبحانه وتعالى، وكما قال الشاعر:
وَمَن ذا الَّذي تُرضى سَجاياهُ كُلُّها
كَفى المَرءَ نُبلاً أَن تُعَدَّ مَعايِبُهْ
ومن مميزات البيضاني سعة حصيلته اللغوية، فقد حضرت في حفل عقيقة ابن الشاعر أحمد الدعيبي في جدة، والتي حضر فيها عدد من الشعراء منهم: الشيخي واللخمي والدرمحي، والبيضاني والحريري والخزمري واللخمي وغيرهم، بعضهم غادر الحفل بعد مشاركة مقتضبة بقصيدة أو قصيدتين، وكنت أجلس في وسط الحفل وبجواري الكرسي الذي يجلس عليه البيضاني، وفي رد له على قصيدة لصالح الحريري قال:
كلما (بوشنت) لويت لي فيها لوى
وعندما جلس سألته عن معنى كلمة (بوشَنت) والتي أسمعها لأول مرة فقال: البوشنة: الفرح، وتذكرت أنني اشتريت كتابًا من كتب التراث هو (كتاب الألفاظ الكتابية) من تأليف: عبد الرحمن بن عيسى الهمداني، طبع في بيروت عام ١٩١١م، يورد الكلمة ومترادفاتها، وعندما اشتريته كان في ذهني أن أهديه للبيضاني ليعزز حصيلته اللغوية، وكان أيامها يدرس في معهد الإدارة العامة في الرياض، ولا يزال ذلك الكتاب عندي وقد استفدت منه كثيرًا، ولا أعتقد أن البيضاني في حاجة إليه.
كما يتميز البيضاني بوحدة موضوع القصيدة، ويكاد ينفرد بهذه الميزة وقد لا ينافسه فيها أحد من الشعراء، ولعلي هنا أورد بعض القصائد التي يتبين فيها وحدة الموضوع في شعر البيضاني، ففي حفل أقيم في بني سار وحضره ثلاثة شعراء من عائلة السراد من شمران، وهذه العائلة فيها ستة شعراء إخوة، وكان ابن مصلح رحمه الله حاضرًا في ذلك الحفل لأنه عند جماعته، فقال أحدهم: يا بن مصلح لا تغلط على ضيفاننا، فرد ابن مصلح: ضيفانكم ضيفاني وأنا أبو نايف، عليَّ الطلاق ما أقول ولا كلمة، وتوقف عن المشاركة، فأصبح أحد الضيوف الثلاثة يرد على البيضاني، واثنان مع بعضهما، وقد بدأ القارعة البيضاني بقوله:
يا سلامي يا شبابٌ ويا عوّد
والذي جانا من الشام والمشرق
كل من جا له معزه ومقدارا
وان بو صالح سعود الضيافينا
والجلايب قدر ضيفه يدانيها
يتبع