يُمثّل التاسع من ديسمبر من هذا العام الذكرى العشرين لاتّفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وهو اليوم الذي يحتفل فيه العالم باليوم العالمي لمكافحة الفساد. كما تحتفل دول العالم أيضًا بالذكرى الخامسة والسبعين لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الموافق للعاشر من ديسمبر 1948م. ويأتي تزامن ذكرى اليوم العالمي لحقوق الإنسان واليوم العالمي لمكافحة الفساد تأكيدًا على العلاقة بين الفساد وحقوق الإنسان من جهة، وعلى الترابط بين أهميّة مكافحة الفساد وحماية وتعزيز حقوق الإنسان من جهة أخرى، وقد عرّف البنـك الـدولي الفسـاد بأنّه “إسـاءة اسـتعمال الوظيفـة العامـة للكسـب الخـاص”. كما عرّفته منظمة الشفافية الدولية بأنّه “سوء استعمال المرء للسلطة التي أؤتمن عليها لتحقيق مكاسب خاصة.” وممّا لا شك فيه أن للفساد أثرًا سلبيًا على التمتع بحقوق الإنسان؛ حيث إنّه يشكّل أحد أكبر الانتهاكات والتهديدات لحقوق الإنسان بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ذلك أنّ كل حقّ من حقوق الإنسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية يمكن انتهاكه بسبب الرشوة والمحسوبية وإساءة استغلال النفوذ والوظائف وغيرها من أشكال الفساد. وعلى هذا الأساس تبرز أهميّة مكافحة الفساد في حماية حقوق الإنسان وتهيئة بيئة مساعدة على تعزيز التمتّع بتلك الحقوق. كما يُسهم دعم حقوق الإنسان وتعزيزها في زيادة التوعية بمخاطر الفساد وآثاره السلبية ورفضه بجميع أشكاله وفي كل الظروف.
ومن هذا المنطلق حُظيت مكافحة الفساد باهتمام دولي كبير؛ لا سيّما من منظمة الأمم المتحدة التي تعتبر أن مكافحة الفساد والقضاء عليه من أولوياتها الأساسية انطلاقًا من أهدافها ومقاصدها الرامية إلى تحقيق الرخاء والتنمية المستدامة للدول الأعضاء. ولهذا تعمل المنظمة على التصدي لهذه الجريمة من خلال جهود ومبادرات كان أهمّها إبرام اتّفاقية مكافحة الفساد في 31 أكتوبر 2003، والتي دخلت حيز التنفيذ في ديسمبر 2005، وكذلك تعيين يوم 9 ديسمبر يومًا دوليًا لمكافحة الفساد. وتلعب المملكة العربية السعودية، باعتبارها من مؤسسي منظمة الأمم المتحدة، دورًا محوريًّا في دعم وتحقيق أهداف الأمم المتّحدة لا سيّما منها تحقيق التنمية المستدامة. والتزامًا منها بالمبادئ والقيم الدينية والأخلاقية السامية النابعة من الشريعة الإسلامية وبمبادئ القانون الدولي، فقد صادقت على هذه الاتفاقية وقامت بجهود عظيمة في حماية حقوق الإنسان ومحاربة الفساد على الصعيدين الوطني والدولي.
فقد أولت المملكة منذ تأسيسها اهتمامًا بالغًا بحقوق الإنسان وهو ما أكّده الملك عبد العزيز -رحمه الله- في كلماته الشهيرة في مجلس الشورى عام 1343هـ التي جاء فيها ما يلي: “لا كبير عندي إلّا الضعيف، حتى آخذ الحق له، ولا ضعيف عندي إلّا الظالم، حتى آخذ الحق منه، وليس عندي في إقامة حقوق الله هوادة ولا يقبل فيها شفاعة.” كما شملت أنظمة المملكة نصوصًا واضحة وصريحة تهدف إلى حماية وتعزيز حقوق الإنسان وعلى رأسها النظام الأساسي للحكم، الذي نص في المادة 8 منه على أن “يقوم الحكم في المملكة العربية السعودية على أساس العدل، والشورى، والمساواة، وفق الشريعة الإسلامية”، كما نصت المادة 26 منه على أن: “تحمي الدولة حقوق الإنسان، وفقًا للشريعة الإسلامية.” ثمّ تضاعف الاهتمام بحقوق الإنسان وتعزيزها وتنميتها في ظل قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، وتماشيًا مع رؤية المملكة 2030 وذلك من خلال حفظ حقوق الإنسان وصون كرامته وحريته، والقضاء على كافة أشكال التفرقة والتمييز بين المواطنين وتحقيق المساواة والعدالة بين الجميع؛ وكذلك من خلال جهودها التنموية والإنسانية وسياساتها الراسخة والرامية إلى نشر السلام والاستقرار لمختلف شعوب العالم.
ونظرًا لانتشار الفساد واتّساع نطاقه وارتباطه بصور الجريمة المنظمة الأخرى كغسيل الأموال والاتّجار في المخدرات؛ حيث أصبح يُشكّل تحديًا خطيرًا ليس لأمن الدول واستقرارها فحسب بل وأيضًا لحقوق الإنسان الأساسية؛ فقد أعلنت المملكة حربها على الفساد مؤكّدة أنّها «لا تقبل فسادًا على أحد ولا ترضاه لأحد ولا تعطي أيًا كان حصانة في قضايا فساد»، وأنّه يهمّها أن تكون «في مقدّمة الدول في مكافحة الفساد»، وأنّه «لن ينجو أي شخص دخل في قضية فساد أيًا من كان». وفي عام 2007م تمَّ الإعلان عن الإستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، التي اكتملت بتنظيم وإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في 2011. ثمّ توالت الجهود بتبني المملكة العديد من الأنظمة والتطويرات والتعديلات والإجراءات والتدابير التنظيمية الفاعلة والرادعة للفاسدين خلال السنوات القليلة الماضية. ومن أبرز الجهود تشكيل لجنة عُليا برئاسة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- للقيام بحصر المخالفات والجرائم والكيانات المتعلقة بقضايا الفساد في السعودية، واتخاذ ما يلزم من الإجراءات مع المتورطين. كما صدرت التنظيمات الهيكلية والمتمثِّلة في ضم “هيئة الرقابة والتحقيق” والمباحث الإدارية إلى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وتعديل اسمها ليكون “هيئة الرقابة ومكافحة الفساد (نزاهة).” وإنشاء وحدة تحقيق وادعاء جنائي، في جهاز واحد ووضعها تحت مظلة واحدة مع هذا الجهاز، ومنحها الصلاحيات اللازمة لملاحقة الفاسدين ومحاسبتهم، وإعادة الأموال المنهوبة للخزينة العامة. وتوصّلت المملكة إلى نتائج مبهرة غير مسبوقة في مجال مكافحة الفساد؛ حيث تمكنت المملكة خلال الثلاث سنوات الماضية من استعادة أموال عامة منهوبة بلغت 247 مليار والتي تُمثل 20% من إجمالي الإيرادات غير النفطية، هذا بالإضافة إلى أصول أخرى تقدر بعشرات المليارات تم نقلها لوزارة المالية. كما يُشكل التحول الرقمي في المملكة وتبني الإدارة الإلكترونية أحد أهم الوسائل لمكافحة الفساد وكذلك تسهيل الإجراءات الإدارية وإنشاء منصة اعتماد لنشر كافة المنافسات الحكومية، وإجراء تعديلات على العديد من الأنظمة، واستحداث أنظمة أخرى، وغيرها من الإجراءات التي لا يتسع المجال لذكرها كلها.
أمّا على المستوى الدولي وبما أن حماية النزاهة ومكافحة الفساد بجميع أشكاله من المبادئ الثابتة في الشريعة الإسلامية والأنظمة الدولية؛ فقد حرصت المملكة على مشاركة المجتمع الدولي اهتمامه في محاربة الفساد من خلال حرصها على عقد الاتفاقيات وحضور المؤتمرات والندوات وتعزيز التعاون الدولي في هذا الإطار. وإيمانًا منها بأهمية تعزيز جهود مكافحة الفساد محليًا ودوليًا تماشيًا مع رؤية المملكة 2030 واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، تقدمت المملكة خلال رئاستها لمجموعة العشرين عام 2020م بمبادرة الرياض الهادفة لإنشاء منصة عالمية تربط بين أجهزة مكافحة الفساد حول العالم، وتوفر قاعدة بيانات موثوقة تعزز المعرفة وتفضح الفاسدين وتوثق جرائمهم، وساهمت بـ 10 ملايين دولار لإنشاء الشبكة، ممّا يؤكد حرصها، وعزمها على معالجة التحديات التي تؤثر سلبًا في جهود المكافحة، ومنها الملاذات الآمنة، ومتابعة قضايا الفساد العابرة للحدود. ومثلما حظيت المبادرة بتأييد قادة مجموعة العشرين، فقد اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة مبادرة الرياض لمكافحة الفساد دوليًا (GlobE)في دورتها الاستثنائية للجمعية العامة المخصصة لمكافحة الفساد، وجدير بالذكر أن أكثر من 45 دولة انضمت للشبكة منذ تدشينها شهر يونيو من العام الجاري، وتم اختيار المملكة نائبًا لرئيس الجمعية العامة ونائبًا لرئيس اللجنة التوجيهية للشبكة.
وامتدادًا لدورها في قيادة جهود المجتمع الدولي في مكافحة الفساد، تقدمت هيئة الرقابة ومكافحة الفساد السعودية (نزاهة) خلال المؤتمر العالمي لتسخير البيانات من أجل تحسين قياس معدلات الفساد، الذي عقد ضمن مبادرة نزاهة العالمية لقياس الفساد، في سبتمبر 2023 في فيينا بمبادرة نزاهة العالمية لقياس معدلات الفساد؛ حيث أكدت المملكة أهمية تنويع الأطر القانونية والسياسية لمكافحة الفساد، وأهمية التعاون من أجل تطوير آليات وأدوات قياس الفساد بالاستفادة من أفضل الممارسات الدولية، وحظي المؤتمر بإشادة دولية بدور هيئة الرقابة ومكافحة الفساد في المملكة في قيادة جهود المجتمع الدولي في مكافحة الفساد سواءً من خلال مبادرتها في تأسيس شبكة مبادرة الرياض العالمية لسلطات إنفاذ القانون أو من خلال مبادرة نزاهة العالمية لقياس الفساد.
ورغم التحديات التي تواجه العالم في مكافحة الفساد وفق ما ذكرته منظمة الشفافية الدولية في عام 2022 حيث لم تحرز 95% من البلدان أي تقدم يذكر منذ عام 2017؛ إلا أنّ المملكة أحرزت تقدمًا ونجاحات هامّة؛ حيث حققت هذا العام أعلى درجات الالتزام بالتوصيات الـ40 المتعلقة بمكافحة غسل الأموال، والتوصيات الخاصة الـ9 المتعلقة بمكافحة تمويل الإرهاب؛ وفقًا للتقرير المعتمد من قبل مجموعة العمل المالي(FATF)، ومجموعة العمل المالي لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA-FATF) مما وضع المملكة في المرتبة الأولى عربيًا، وأحد المراكز العشرة الأولى في ترتيب دول مجموعة العشرين. كما أحرزت المملكة تقدمًا بسبعة مراكز عالمية في ترتيب مؤشر مدركات الفساد (CPI) لعام 2019م، الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية؛ حيث حققت المركز الـ51 عالميًا من أصل 180 دولة، وذلك بدعم لا محدود من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وسمو ولي عهده الأمين -حفظهما الله.-
وختاماً يمكن القول إنّ جهود المملكة في مكافحة الفساد الوطنية والدوليّة حققت نجاحات كبيرة، وساهمت في ترسيخ مكانة المملكة وتعزيز دورها الريادي والمحوري والثقة الدولية التي تحظى بها، والذي تجعل منها قوة استثمارية عالمية ووجهةً مثاليةً لاستضافة أبرز المحافل العالمية لعل أهمها معرض إكسبو الدولي 2030 وكأس العالم 2034، وأنّ استمرار المملكة في جهودها الرامية لاجتثاث الفساد من جذوره، سيسهم في ازدهار اقتصادها وفي تحقيق التنمية المستدامة؛ ومع ذلك تبقى مكافحة الفساد مسؤولية الجميع؛ حيث إنّ كافة القطاعات مطالبة بتكثيف وتكاتف جهودها، وتكاملها وتوجيهها نحو تحقيق مكافحة ناجعة للفساد.
– د. حمزه بن فهم السُّلمي، أستاذ القانون الدولي المشارك
رئيس قسم القانون العام بكلية الشريعة والقانون، جامعة جدة