شرعت في الحديث عن اللغة العربية في مناسبة اليوم العالمي لها الموافق الثامن عشر من ديسمبر من كل عام، وقد وفقني الله أن أختار رجلًا من رجالها للحديث عنها في شخصه، أديب ومؤرخ ورجل ثقافة من طراز فريد، كان صاحب رسالة، رجل شامخ ذو أهمية ومهمة حيثما حل، وتلك كانت مشكلته الكبيرة؛ لأنها تمكنت من إحساسه وسيطرت على حواسه وأصابته بفرط شديد في تعامله مع قضايا الأدب واللغة والهوية، ومن الأقوال الخالدة لشيخ العربية وحامل لوائها والمدافع عنها في مواجهة التغريب: حياة الأمم في ألسنتها، اللسان هو حياة الأمة، لا حياة لأمة بغير لسان، واللسان كالنهر الجارف، يجمع كل محصول الأمة، كالغيث منهمر آلاف القرون، يتكون منه هذا النهر، فإذا انقطع تيار هذا النهر وقعت خيبة. ومن أقوله أيضًا: إن هذه اللغة الدقيقة العجيبة التي اختارها الله من لغات الناس لكتابه المحكم صعبة، شرودة، لا يصبر على معارفها ومجاهلها إلا من أوتي جلدًا لا يستضعف، ورُزق من دقة الإحساس نصيبًا وافرًا لا ينفد.
الأستاذ محمود محمد شاكر أبو فهر، الأديب والمؤرخ المصري، ولد في ليلة العاشر من المحرم (1327م-1418هـ) مسقط رأسه الإسكندرية، نشأ في بيئة علمية، كان والده كبير علماء الإسكندرية ثم وكيلًا للجامع الأزهر، وكان أخوه الأكبرأستاذًا للحديث، تلقى تعليمه الأولي في مدارس القاهرة، حفظ ديوان المتنبي منذ نعومة أظفاره، ثم أكمل تعليمه الثانوي في المدرسة الخديوية علمي، ثم أراد الالتحاق بالأزهر فمنعته شهادته العلمية، فتوسط له الدكتور طه حسين وتمت وانتظمت دراسته، ثم اصطدم بآراء أستاذه عندما نقض الأدب الجاهلي وعلى أثر ذلك ترك الجامعة ومصر وقرر السفر إلى المملكة العربية السعودية عام 1350هـ، وطلب منه الملك عبد العزيز ـطيب الله ثراه- إنشاء مدرسة جدة الابتدائية. عمل مديرًا لها لمدة عام وبعدها اضطر للعودة إلى مصر لظروف عائلية.
مفكر متوهج العقل، له قدرة على نقد ما لا يُحتمل من العقل ولا ما يستساغ من سير أحداث التاريخ، وامتدت تلك المقدرة إلى نقض أعتى المسلمات. عشق الثقافة العربية وامتلك زمامها؛ فكانت تلك الثقافة العربية جميعها بمثابة كتاب واحد في ذهنه، أقل ما يمكن أن نوفيه حقه من الألقاب والألفاظ أن نقول عنه قمة من قمم العربية وعلم من أعلامها، والحديث عنه -ولا مجاملة- إنما هو حديث عن تاريخ هذه الأمة العربية عقيدة وفكرًا ولغة ورجالًا. أما الحديث عن كتبه ومؤلفاته فهو الحديث عن مكتبة داخل كل كتاب. ألف الشيخ أحد عشر مؤلفًا ومن أشهرها كتاب “قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام”، وكتاب “برنامج طبقات فحول الشعراء”، و”رسالة في الطريق إلى ثقافتنا”، و”أباطيل وأسمار”، وكتاب “نمط صعب ونمط مخيف”، و”القوس العذراء”، وكتاب “المتنبي”.
استمات في قضايا الدفاع عن اللغة وخاض في شأنها معركتين أدبيتين كبيرتين أسفرتا عن كتابين: “المتنبي” ركز فيه على الرد على طه حسين، و”أباطيل وأسمار” كذلك ردًّا على الدكتور لويس عوض وكانت منطلقًا لقضايا كثيرة متعلقة بها وبالحضارة والثقافة، أولاهما مع طه حسين والأخرى مع لويس عوض، حتى نعته بعضهم بهازم طه حسين لمكانته الأدبية واستبعاد ذلك، كما وأن ذلك لم يُعلِ من شهرته على ألسنة الناس كما كان ذكر وشهرة طه حسين والحكيم والرافعي والعقاد. كان الأستاذ شاكر ظاهرة في الأدب والثقافة العربية الحديثة، كانت له طريقته الخاصة في الأدب والكتابة والشعر، بلغ حد الذروة من الإبداع الشعري في قصيدته “القوس العذراء”. حقق الكثير من أمهات كتب التراث، كان قادرًا على قراءة متعمقة يستطيع بأدواتها أن يفك رموز تلك الكتب المحققة ويشرح طلاسمها، وقد اقتنصتها مكتبة الخانجي لعلمها بمكانة الشيخ محمود شاكر وبراعة يراعه. ومن أشهر ما ألف الشيخ كتاب “المتنبي” الذي أثار ضجة كبيرة بمنهجه وأسلوبه المبتكر، ووضع معه المقدمة (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) وقد احتوت جل فكره، طبع 1407هـ، وهذا الكتاب حوى مدخلًا لرسالته التي وصف رحلته فيها؛ حيث ذكر أنه قضى منها نحو عشر سنوات كان في حيرة زائغة وضلالة مضنية وشكوك ممزقة حتى خاف على نفسه الهلاك، وتلك محنة الأدباء والفلاسفة العظماء، وجزء ليس باليسير من حياة أديبنا ومساجلاته ومصادماته مع أستاذه طه حسين عميد الأدب العربي، رغم تردد الأستاذ شاكر في بادئ الأمر أن يواجه أستاذه حتى سنحت الفرصة لشاكر عندما استمع إلى محاضرة الأستاذ العميد والتي هاله فيها رميه للشعر الجاهلي بالانتحال عندما قال: “إن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرًا جاهليًّا، ليس من الجاهلية في شيء، وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تُمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم، أكثر مما تمثل حياة الجاهليين، وأكاد لا أشك في أن ما بقي من الشعر الجاهلي الصحيح قليل ولا يمثل شيئًا وأنه من تأليف الرواة المسلمين وسبكهم؛ ليفسروا به القرآن وخاصة لاثنين من كبار شعراء الجاهلية لغة ورصانة وجزالة هما: امرؤ القيس وزهير بن أبي سلمى -متأثرًا على رأي شاكرـ بكلام “رجليوث” وانتحال أفكاره والسطو عليها، وهذا المستشرق الموتور الذي درس علوم الحضارة العربية دون وعي أو دراية ولا خلفية بيئية عاش بها بينهم أجهلته الكثير من فهم ووضوح القضايا المتشابكة بأبعادها الزمنية والمكانية، فكتب ما يظهر سقطه وزلاته ويفضح حنقه وحقده بملته على العرب، دفع ذلك الأستاذ شاكر دفعًا إلى إعادة قراءة الأدب العربي كله عمومًا والشعر خصوصًا، ولن نكون مبالغين إذا قلنا: إنه كان يقرأ كل ما تقع يده عليه من كتب الأدب العظماء من المؤلفين، وكذلك كتب التاريخ والتفسير والحديث الداعمة لذلك، أما عن معركته مع الدكتور لويس فكانت بأسباب مقالاته المنشورة بالأهرام التي تبث أفكاره، وهو رجل معروف اتجاهه وتوجهاته، وخاصة كلامه في أبي العلاء المعري وأنه تأثر باليونانيات، وتلميحه إلى تأثر الحديث النبوي باليونانية، على الرغم من معرفة شاكر بقدر أبي العلاء وغزارة إنتاجه وسبك تراكيبه وكثرة معانيه، وذكر في دفاعه عنه واصفًا له بأنه “أعظم أثرٍ أدبي وأوعره مسلكًا في لغة العرب”.
ودليل إعجاب شاكر به اقتباس عنوان كتاب “أباطيل وأسمار” المأخوذ من البيت الشعري لأبي العلاء:
هل صح قول من الحاكي فتقبله… أم كان ذاك أباطيل وأسمار؟
كما كان له موقف واضح من الحضارة الغربية وموقفها من الحضارة الإسلامية والهجمات الفكرية وقضايا الاستشراق والاستعمار والتبشير هذه الثلاثة متعاونة متآزرة، فدينهم وأهدافهم ووسائلهم واحدة.
فمن خلال اطلاعه الواسع استنبط، بل استدل على أن حضارة أوروبا استمدت معارفها من الاكتشافات العربية في شتى المجالات، وقامت بالحصول والسطو على نفائس الكتب والمخطوطات في كل علم ومعرفة وفن، عكفوا عليها بالدراسة العميقة وحققوا منها أغراضهم، ومعلوم أن لهم مآرب من الحضارتين العربية والإسلامية.
وكانت الفترة التي عاشها الأستاذ محمود شاكر فترة زاهية وزاخرة بالكثيرين من الأدباء والمثقفين، أمثال الأستاذ أحمد تيمور باشا، والأستاذ أحمد زكي باشا، والأستاذ الرافعي، وعباس العقاد وإن كان الأخير مشغولًا لشوشته بقضايا مدرسة الديوان التي حمل لواءها بعد رحيل عبدالرحمن شكري والمازني.
في تلك الفترة نشر شاكر قصيدة أو بعض قصائده الرومانسية، ثم في نفس الإطار كان يعد العدة لإخراج كتاب “المتنبي” وبالفعل صدر الكتاب في عام 1936م وذاع صيته وذلك لاستنتاجاته غير المسبوقة والذي اهتدى فيه إلى استنباطات لم يهتدِ إليها أحد، فقد توصل بفراسته الحادة وقدرته على التحليل أن المتنبي علوي وأنه لم يكن ابنًا لأحد السقائين ولكنه ولد ونشأ لأسرة علوية في مدينة الكوفة وتعلم هناك مع أشراف المدينة.
وكان خلال تلك الفترة قد هاجم طه حسين في عدة مقالات بالصحف المصرية، اشتعلت هذه المعركة مرة أخرى بعد صدور كتاب “المتنبي” للدكتور طه حسين وبه تجددت المعارك الأدبية بينهما، وقد فاز بجائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي استحقاقًا بعدما أهدى نسخة من كتابه “المتنبي” لجلالة الملك فهد بن عبد العزيز -رحمه الله- ولعل الأستاذ شاكر كان يشعر بعظمة هذا الإهداء وأنه في مكانه ومحله، وكان له في ذلك بعد نظر وإحساس عظيم بما أودعه في الكتاب حول المتنبي. وقد جاء في قرار هيئة الجائزة عن هذا المؤلف “المتنبي” قولهم: “والذي حمل كثيرًا من القيم العلمية والأدبية العالية، منها: التعمق في الدراسة والجهد والاستقصاء والقدرة على الاستنتاج والدقة في التذوق، والربط المحكم بين الشعر وأحداث الحياة، وقد تم الكشف عن ذلك كله في الكتاب” وقد أهداها بتاريخ 11/9/1403هـ ويعتبر تكريم المملكة له يصب في أوعية تقدير المملكة للعلم والعلماء، خصوصًا ما يتعلق بالأدب القديم واللغة العربية لأنها وبصدق تتصدر إحياء اللغة والحفاظ عليها باعتبارها هوية ثقافية ولغة القرآن والوحي والرسالة، وفي ذلك الصدد يأتي إنشاء مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية في 1443هـ احتفالًا واحتفاءً بالعربية وتراثها وإرثها القديمين، ومما ذكر فيه من الأوصاف من أبناء عصره من المثقفين وغيرهم منهم الدكتور محمود الطناحي “إن محمود شاكر قد رُزق عقل الشافعي، وعبقرية الخليل، ولسان ابن حزم، وشجاعة ابن تيمية، وبهذه الأمور الأربعة مجتمعة حصَّل من المعارف والعلوم العربية ما لم يحصله أحد من أبناء جيله”، كما وصفه الشيخ عبد الله بن عبد المحسن التركي عضو هيئة كبار العلماء أن الأستاذ محمود شاكر من كبار علماء العربية في عصره، وأن بيته المليء بالكتب والمخطوطات كأنه جامعة، كما أنه كان كثير التردد على المملكة وألقى عدة محاضرات، ولو استفضنا عن الحديث عن واصفيه ومادحيه لطال بنا المقام. ومن الجميل والممتع أن نختم مقالنا المتواضع عن الشيخ الجليل بأبيات قليلة من رائعته “اعصفي يا رياح”:
لقد كنت أحلامي إذا الليل ضمني وكنت ـ إذا ما الفجر أيقظني ـ روضي
يناجيك طير في الضلوع بلحنه لقد عاش في سحر وقد عشت في خفضِ
وكنت على ورد الخمائل زينة وكان بشير الفجر في الفنن الغضِّ
وختامًا.. فالعربية تستحق الكثير وكذلك رجالها أمثال العلامة محمود شاكر ولكن قليل من الندر أوفى. وصحيح أن كل شيء في وقته حسن، إلا أن مقالي تأخر عن موعده بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية لأسباب قاهرة، مرض أخي وعضدي الأكبر ثم انتقاله إلى رحمة الله.
جدة.
0