الحقيقة أن الأحلام لا تموت ولكنها: تتغيَّر، تتطور، وأحيانًا تتبخر !!
عندما كنا صغارًا كانت أحلامنا بوسع الشوارع الضيقة التي كُنا نجري ونلعب فيها، كانت الحارة هي الدنيا بالنسبة لنا، وكانت أحلامنا باتساع هذه الدنيا الصغيرة ..
أن نفوز في تحدي لعبة الكرة التي كُنا نلعبها في الحارة، أن نفوز في رهان لعبة الفرفيرة أو اللب (البرجون)، أو في سباق الجري الذي كُنا نُقيمه في حارتنا، من تكون نطّته أعلى في لعبة الحبل !!
كبرنا قليلًا وزادت أحلامنا اتساعًا: من يسبق الآخر في الوصول لباب المدرسة، من يخرج أولًا من الفصل؛ ليلحق عم سالم قبل الآخرين ليشتري بريال بطاطس، من يخرج من الاختبار أولًا، من يملك ريالات أكثر في جيبه !!
وكبرنا أكثر وتغيَّرت أحلامنا في الحياة وأهدافنا: من يقنع رائد الفصل؛ ليكون عَرِيف الفصل وينتقم ممن لا يحبهم في الفصل؛ فيغيبهم أو يكتب أسماءهم ضمن المشاغبين ليأتي وكيل المدرسة ويضربهم!! ومن يحصل درجات أعلى في المدرسة، ومن يستطيع أن يتقرَّب من مدرس الرياضة أكثر ليشركه في دوري المدرسة، ومن سيقنع مدرس الرسم؛ ليُشارك في معرض الفنية السنوي الذي يحضره أولياء الأمور ومسؤولون من التعليم !!
أما أنا فمع هذه الأحلام الجميلة، والتي يتنافس عليها الجميع كان لي أحلام أخرى: كنت أحلم أن أشارك في إذاعة المدرسة، وقد حققت هذا الحلم بجدارة، كنت أحلم أن أكون في فرقة النشيد في المدرسة، وكان ذلك فقد كان صوتي يؤهلني لهذا، كنت أحلم أن أكتب تعبيرًا أكثر وأكثر في اختبار الإنشاء حتى إنني كنت آخر الطلاب خروجًا من الاختبار، كنت أحلم بأن أقرأ اسمي ضمن الأوائل الذين يُكرَّمون في المدرسة وقد كان، أذكر أختي وهي تحمل هدية النجاح ومعها اثنتان من صديقاتها من أهل الحارة، وقد جاءوا ليعطوني هدية النجاح في إحدى سنوات المدرسة الابتدائية .
في المرحلة المتوسطة والثانوية كُنت نجم الإذاعة: قدّمت، وقرأت القرآن، وأنشدت حتى بالإنجليزي !! وكتبتُ مرة قصيدةً فيها مدحٌ (نفاق) لمدير المدرسة – المرحلة الثانوية – ليوافق على رحلة للمدينة المنورة لجماعة التوعية الإسلامية، وأذكر من أبياتها:
فمعلموها كالنجوم لوامعٌ ولأنت فيهم للنجومِ سماءُ
وأعجبته القصيدة، ودعاني لشرب الشاي معه في المكتب !!
وظلت القصيدة إلى وقت قريب قبل إزالة مبنى المدرسة مكتوبة بخط جميل ومعلقة أمام مكتب مدير المدرسة، ولكنها للأسف هربت من ذاكرتي، ولم أعد أتذكر منها شيئًا.
وكان من أحلامي الكبيرة حفظ القرآن الكريم، وقد حفظه حفظًا غير مُتقن للأسف الشديد .
………………………….
هذه كانت أحلامي فترة الصغر والمراهقة، لم تتعدَّ أحلامي أكثر من أن أُكرَّم في حفل، أو أشارك في نشاط، أو أن أكتب قصيدة أو نصًا يعجب من يسمعه أو يقرأه .
وفي أواخر المرحلة الثانوية كان حلمي أن أدخل كلية الهندسة، وتغيَّر الحلم لأدخل كلية اللغة العربية في جامعة أم القرى في مكة المكرمة -شرفها الله- .
هناك كانت أحلامي تكبر معي، قراءة المطولات من الكتب، الجلوس مع العلماء والدكاترة وأئمة الحرم، تأليف كتب، التفوق في الجامعة وقد كان ولله الحمد، حفظ بعض المتون العلمية ـ حفظت بعضها ـ .
كان أحد الأساتذة الكبار – العلامة محمد محمد أبو موسى أستاذ البلاغة – يقولي لي: ياواد يا عمر تفرغ للعلم لتحصّله. وكان يقصد أن أركز في طموحي وأهدافي، وأن أترك ما نفعه قليل أو لا نفع فيه، والحقيقة أني لم أمتثل لوصيته، فقد شغلت نفسي بأمور كثيرة، أخّرتني عن تحقيق حلمي بأن أكون مُعيدًا في الجامعة أو أن أحصل على الماجستير والدكتوراة في تخصص الأدب والنقد، وكان لتحطم هذا الحلم أسباب أخرى غير عدم التركيز .
تخرجتُ من الجامعة، وكان الجميع طوال فترة دراستي للسنة المنهجية يُناديني بالدكتور عمر تحفيزًا لي بأن أكمل الماجستير بسرعة وأبدأ في الدكتوراة، ولقد خذلتهم جميعًا! وأولهم أهلي .
وتستمر الحياة، ونكبر في العمر، ونتزوج، ونصبح آباء، وتعود أحلامنا لتصغر مرة أخرى، أو تصبح حلمًا أو حلمين بعد أن كانت أحلامًا كثيرة .
فاليوم وأنا على مشارف الخمسين، وقد انتشر الشيب في رأسي ولحيتي، وبدأ الظهر بالانحناء، وبدأت تزورني آلام الركبة والظهر، وكبر الأولاد، ولم تعد تغريني مباهج كثيرة في الحياة، بعد كل هذا العمر أحلم: أن أترك هذه الحياة حينما يكتب الله لي أن أتركها وقد تركتُ أثرًا طيبًا فيها: من كتب فيها علمٌ نافع وموعظة حسنة لمن يقرأها، وطلاب ينشرون السيرة الطيبة عني ويدعون لي بقلوبهم، ويبكون على فراقي، وأناس علمتهم كيف يؤلفون كتبًا نافعة، وكيف يتركون أثرًا في هذه الأرض .
أحلم وأرجو من الله: أن أغادر هذه الحياة.. وحين أغادرها وليس لأحدٍ من المسلمين عندي حقٌ يُطالبني به .
أن أغادر هذه الدنيا ليس بهدوء بل بصَخَب !! نعم بصخب: صخب الدعوات الطيبة لي، والذكر الحسن في الأرض، ولي في سيدنا إبراهيم -عليه السلام- قدوة حسنة حين سأل ربه (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ(85)) (الشعراء 83-85)
أن أغادرها مسلمًا مُوحدًا عابدًا لله ثابتًا على ديني ومبادئه غير مبدِّل ولا مغيِّر، لقد كانت تلك أقصى أماني سيدنا يوسف -عليه السلام- في نهاية قصته مع إخوته وأبويه، حين ناجى ربه (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف: 101) آمين.
– كاتب وناشط ثقافي
وفقكم الله لما يحبه ويرضاه والله يحفظكم ويرعاكم يبوفارس ودمتم بخير وصحه وعافيه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اسعدك الله في دنياك واطال عمرك في طاعته فقد صحبتك قليلا وتعلمت منك واستفدت كثيرا كثيرا من بعض طلابك … وها نحن يا استاذي قد غزانا الشيب رغم صغر سننا لكن حسبنا كما علمتمونا أن نترك الأثر الطيب وهذي هي الحياة سيكمل السير غيرنا وينسخ الأثر