المقالات

كوبرا الهند وفئران فيتنام

ظهر مصطلح (تأثير الكوبرا) خلال فترة الاحتلال البريطاني للهند؛ حيث عانت الحكومة البريطانية من تزايد أعداد ثعابين الكوبرا السامة في مدينة دلهي؛ ولتسريع عملية القضاء على الأفاعي المنتشرة وضعت الحكومة البريطانية مكافأة مالية لكل من يأتي بثعبان كوبرا ميت، وقد نجحت هذه الاستراتيجية في البداية؛ حيث قام الهنود بقتل أعداد كبيرة من ثعابين الكوبرا من أجل الحصول على المكافأة. ولكن بعد فترة حرص الناس على تكاثر الثعابين التي أصبحت مصدر رزقهم؛ فقاموا بتربيتها من أجل تحسين الدخل، وعندما أدركت الحكومة ذلك الأمر، ألغت المكافأة؛ مما جعل الثعابين دون قيمة بالنسبة لمن يقوم بتربيتها، حينها قام الأهالي بإطلاق الثعابين التي يربونها ليزداد الأمر سوءًا؛ حيث تزايدت أعداد الكوبرا وارتفعت معها حوادث اللدغ. وخلال الاحتلال الفرنسي لفيتنام حدثت حالة مشابهة، حين انتشرت الفئران بصورة مزعجة؛ فقررت حكومة الاحتلال الفرنسي صرف مكافأة مجزية لكل من يأتي بفأر مقتول شريطة أن يقوم كل من يقتل فأرًا بإحضار ذيل الفأر كدليل على قتله لكي يقبض المكافأة. وبعد فترة من الزمن لاحظت الحكومة انتشار أعداد كبيرة من الفئران دون ذيول؛ حيث كان الفيتناميون يمسكونها ويقطعون الذيل ثم يطلقوها مرة أخرى في المجاري لتتكاثر من جديد وتنجب المزيد من الفئران؛ وبالتالي تزداد مكافآت صائدي الفئران.
هذا هو الحال عندما يتخذ البعض قرارًا لحل مشكلة معينة دونما تشخيص دقيق لتلك المشكلة، ودونما النظر للحل المقترح ودراسة الآثار المترتبة عليه، والتي ربما تكون نتائجها كارثية وأسوأ من الآثار المترتبة على المشكلة الحقيقية التي اتخذ من أجلها ذلك القرار، ومن الأمثلة على هذه النوعية من القرارات: قيام الحكومة المكسيكية بفرض قانون يمنع تنقل (20%) من السيارات في العاصمة المكسيكية بسبب تلوث الهواء؛ حيث جاء القرار بمنع تجول السيارات على الطرقات بين يومي الإثنين والجمعة حسب رقم لوحة السيارة؛ بهدف تقليص انبعاث الكربون في المدينة. لكن، يبدو أن هذا القرار كان سببًا في زيادة الانبعاثات؛ حيث اشترى السكان سيارات أخرى؛ بالإضافة إلى سياراتهم من أجل التنقل بها في الأيام التي لا يستطيعون فيها استعمال سياراتهم، والمشكلة أن تلك السيارات كانت في الغالب مستعملة وقديمة الأمر الذي جعلها سببًا أكبر للتلوث. وبعد ثلاث سنوات، أعلنت الأمم المتحدة أن العاصمة مكسيكو هي أكثر المدن تلوثًا على مستوى العالم، وكشفت التقارير أن محاولة تقليل عدد السيارات في الطرق سبب زيادة كبيرة في عدد السيارات وارتفاعًا في مستويات الكربون إلى (13%). وفي حادثة أخرى ذكر عالم الأحافير الألماني غوستاف هنريك رالف في كتابه «رجل جاوا»، عن تجربته الصعبة في جمع الأحافير عندما كان يقوم بالبحث عن الأحافير بمفرده، ثم أراد أن يطور العمل من خلال الاستعانة بالأهالي لجمع الأحافير، فأصبح يُقدم مبلغًا ماليًا مقابل كل أحفورة يجدها الأهالي. ثم بعد مرور أشهر من العمل الشاق اكتشف أن الأهالي يقومون بتكسير الأحافير إلى قطع صغيرة لمضاعفة أرباحهم، الأمر الذي جعل عمله أكثر صعوبةً وأكبر تكلفةً.
وعلى مستوى المؤسسات لدينا؛ فمن المؤكد أن هناك الكثير من القرارات التي جاءت نتائجها عكسية، لكنها لا تظهر على السطح ولا يعرف عن تلك القرارات إلا القريبون من محيطها، وكذلك المـتأثرون بنتائجها، ورغم أن غالبيتها متشابهة إلا أن حدوثها يتكرر في أكثر من مؤسسة ومن ذلك:
– عندما يريد مدير مؤسسة معينة تخفيف ضغط العمل عن كاهله، والتقليل من المركزية والإسراع بتنفيذ المهام والتوجيهات؛ وبدلًا من تكليف شخص واحد بمساعدته؛ فيقوم بتعيين عدد من المساعدين أو النواب له دون تحديد دقيق لمهام وصلاحيات كل منهم، فتبدأ بينهم المنافسة التي تصل إلى الحرب الضروس بينهم وتتداخل مهامهم، وكل نائب يريد أن يكون صاحب الحظوة لدى مديره، والكل يسعى لأن يكون الشخص الثاني في المؤسسة بعد مديرها بل ربما طمع أحدهم بأن يكون الرجل الأول، فتبدأ مرحلة من مراحل النزاع داخل المؤسسة الأمر الذي يؤدي إلى شل حركة اتخاذ القرار وضياع المسؤولية، والتأخر في إنجاز المهام والبطء في تنفيذ الإجراءات، وبصورة أكبر مما كانت عليه قبل تعيين هذا الكم من المساعدين. وكلما زاد عدد النواب والمساعدين !! كلما كان عدد المشكلات أكثر وحجمها أكبر وأثرها أخطر!! والمشكلة عندما يريد المدير العودة مرة أخرى والتراجع عن قراره وتقليص عدد مساعديه؛ فتبدأ مرحلة الخيار الصعب في تحديد من يبقى ومن يرحل، والذي سيرحل إلى أين سيتجه. حتمًا لا بد من قرارات أخرى، ولكنها ربما تُدخل المؤسسة في دوامة جديدة ينتج عنها أعداد كبيرة من فئران فيتنام أو ظهور كوبرا دلهي فتلدغ مدير المؤسسة!!
– مؤسسة تواجه مشكلة في كثرة طلبات النقل بين فروعها؛ وخاصة طلبات النقل من المناطق النائية إلى المدن، فأصدرت قرارًا بأن يكون تقييم أداء الموظف هو المعيار الوحيد للنقل من منطقة إلى أخرى، فالموظف صاحب التقدير الممتاز له أولوية في النقل عمن هو دون ذلك. وهو بلا شك قرار تظهر في مبرراته العدالة والإنصاف، لكن عند التطبيق أصبح كل مدير يريد أن يتخلص من موظف مشاغب أو متسيب وكسول؛ فيعطيه تقديرًا ممتازًا؛ حتى يتمكن من النقل بسهولة وبالتالي يتخلص من وجوده، بينما يعطي الموظف صاحب الأداء الممتاز تقديرًا منخفضًا حتى يضمن بقاءه في إدارته. بل إن إحدى المؤسسات وضعت أولوية الموافقة على طلبات النقل بالنسبة للسيدات أن تكون السيدة مطلقة؛ فيقال والعهدة على الراوي أن واكب صدور ذلك القرار ارتفاع معدل الطلاق بين الراغبات في النقل إلى مناطقهن، وإن كان الحديث على أن الطلاق يكون متفقًا عليه مسبقًا بين الزوجين، ومن ثم بعد نقل الموظفة تعود المياه إلى مجاريها، ويتم الارتباط مرة أخرى. لكن حتمًا تبقى هناك آثار نفسية واجتماعية لمثل هذا القرار، ويبقى الأمر أهون ولله الحمد إذ لم تشترط المؤسسة للنقل بأن تكون الموظفة أرملة!!

الخاتمة:
لا نتسرع في اتخاذ أي قرار إلا بعد دراسته دراسة جيدة لكي تتعرف على النتائج الإيجابية التي تعود من جراء اتخاذ ذلك القرار، وكذلك التعرف على المخاطر التي من المحتمل حدوثها، فلا تُغامر فتضع نفسك رهينة للمفاجآت.
—————————
• عضو هيئة التدريب في معهد الإدارة العامة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى