يتميز البيضاني بوحدة موضوع القصيدة، ويكاد ينفرد بهذه الميزة، وقد لا يُنافسه فيها أحد من الشعراء، ولعلي هنا أورد بعض القصائد التي يتبيّن فيها وحدة الموضوع في شعر البيضاني، ففي حفل أقيم في بني سار وحضره ثلاثة شعراء من عائلة السراد من شمران، وهذه العائلة فيها ستة شعراء إخوة، وكان ابن مصلح -رحمه الله- حاضرًا في ذلك الحفل لأنه عند جماعته، فقال أحدهم: يا بن مصلح لا تغلط على ضيفاننا، فرد ابن مصلح: ضيفانكم ضيفاني وأنا أبو نايف، عليَّ الطلاق ما أقول ولا كلمة، وتوقف عن المشاركة، فأصبح أحد الضيوف الثلاثة يرد على البيضاني، واثنان مع بعضهما، وقد بدأ القارعة البيضاني بقوله:
يا سلامي يا شبابٌ ويا عوّد
والذي جانا من الشام والمشرق
كل من جا له معزه ومقدارا
وان بو صالح سعود الضيافينا
والجلايب قدر ضيفه يدانيها
وقد قال عدة قصائد على هذه القارعة تتجلَّى فيها وحدة الموضوع، ومنها قوله:
عارفٌ سوق الثلاثا وسوق الحد
واقضي الطيب من السوق واتوفق
واعرف اللي ما تسويق ولا تجرا
وانحن قد قد بعنا في السوق واشرينا
والبضاعة الخاسرة فيد راعيها
فالقصيدة في موضوع واحد هو السوق والبيع والشراء، ومن ذلك قوله:
بالرقوش آمرينا من حياة الجد
عنده التاريخ والرشد والبيرق
يوم جا للقوم صيحات وانهارى
انت تدري بالخبر وانحن ادرينا
ما يعز الديره إلا بناويها
وقوله:
عندنا امصادر واذاعات وجرايد
علمت بأهل الصواريخ والبندق
علم اللي ياتهيود ويتنصرى
إسرائيل بتنسحب من فلسطينا
وابتعود كل ديره لهاليها
وقوله:
يا قبيلة ما بي إلا يبيح السد
آني آسير مع الناس واتشفق
من يداريني تراني عليه ادرى
وأنتم يا زوار طوق الحجازين
ما بعد ريتم تهامه وأراضيها
ومن النادر أن يتحدث البيضاني عن موضوعين في قصيدة واحدة، وإذا فعل ذلك جاء بما يربط بين الموضوعين ولو بخيط رفيع جدًّا كما هو الحال في القصيدة الأخيرة أعلاه.
كما يمتاز شعر البيضاني بالقوة والوضوح، ولم يقل بيتًا ويقول الناس: ليته ما لم يقله.
وشعر البيضاني مليء بالحكمة ودروس الحياة، وأصبح الناس يتناقلونها كما يتناقلون حكم المتنبي، ومن ذلك قوله من قصيدة طويلة:
والبريهه لو تعاديها تعدوت لك وهي برهية
والأسد والنمر لو روضتها مدت رقابها
هذان البيتان يُعتبران منهجًا في التربية والإدارة والقيادة، فتصرف الآخرين معنا انعكاس لتصرفاتنا معهم، ولقد نشرت صحيفة “الجزيرة” لي مقالًا بعنوان: (نحن في هذه الدنيا نُقابل أنفسنا) ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: (ما كان الرِّفْقُ في شيءٍ إلَّا زانَه، ولا نُزِعَ من شيءٍ إلَّا شانَه). والحكمة في شعر البيضاني كثيرة وموجودة ومبثوثة في تسجيلاته الكثيرة.
ومن القصائد التي تُعالج موضوعًا اجتماعيًا مهمًا قصيدته عن التدخين، والتي يقول فيها:
كنت في ماض الزمان أهوى شراب الشيش(ه) والبكت
قصدي أتباهى بها وإلا فلا هي بحومة في رأسي
فانها لا تشبع الطاوي ولا تروي من الضما
ولعة الشيطان يشعلها وتجري في عروق ابن آدم
تب لوجه الله يا ذا أحرقت قلبك بالدخاين
مثل ما بطلتها وأنا عشقتوها من أول مره
ما عد أذكرها ولا قد بات رأسي دايخٌ لها
وكان البيضاني يُدخن بشراهة كما ذكرت في بداية المقال، وقصة إقلاع البيضاني عن التدخين كما يرويها، إنه كان معزومًا في بني شهر وكان معه ابن مصلح وابن قيسي، وكان الزواج في مجلس كبير، وبني شهر يحترمون مجالسهم ولا يدخنون فيها ومن أراد أن يدخن يخرج من المجلس، يقول: كنت أدخن السيجارة وأعود وبعد دقيقة أو دقيقتين أشعر برغبة شديدة للتدخين فأخرج، ولما تكرر خروجي ودخولي، خرج ابن مصلح وابن قيسي وتبعوني خارج المجلس، وقالوا: تكرار خروجك ودخولك فيه إحراج لك ولنا، ولكن دعنا نذهب إلى أي مكان ودخَّن على راحتك، كان المغرب قد اقترب ولم يبقَ عليه إلا أقل من ساعة، وأثناء سيرنا قابلنا رجلًا مُشرق الوجه، مُلتحيًا، وضاء الجبين، يشع وجهه نورًا، فحيّانا وتهلل لنا، وفرح برؤيتنا، ورحّب بنا وطلب منا أن نذهب معه إلى بيته، وهو يكرر الترحيب، كان بيته دورًا واحدًا، وعندما دخلنا إلى مجلسه، قال ابن قيسي: أحضر لنا طفاية خوينا يريد أن يدخن. فقال: والله يا إخواني لم يدخن أحد في مجلسي هذا من قبل. قال ابن قيسي: ما خرجنا من مجلس الزواج إلا لكي يدخن خوينا، جب لنا صحن أو أي شيء يقوم مقام الطفاية.
ذهب إلى بقالة أمام بيته واشترى طفاية زجاجية صغيرة وأحضرها لنا، وأشعل ناره وسوى القهوة والشاهي، ولكن تراحيبه وإشراقة وجهه انطفأت وكان الصمت يُخيم على الجلسة، يقول البيضاني: دخنت ثلاث سجائر تقريبًا واستأذنا للخروج، مسك الرجل الطفاية بيده اليسرى كمن يحمل شيئًا نجسًا، ورافقنا وأمام باب بيته كان هناك مكان نفايات فرمى الطفاية بما فيها في تلك النفايات، يقول البيضاني: بقيت ثلاثة أيام كلما مددت يدي إلى البكت في جيبي تذكرت ذلك المنظر، فأتوقف، بقيت على تلك الحال ثلاثة أيام تمزّق البكت خلالها في جيبي، وأخيرًا أخذته وقذفت به في محل النفايات كما فعل صاحبنا بالطفاية، وكان ذلك آخر عهدي بالتدخين، والإقلاع عن التدخين يحتاج إلى إرادة قوية، وقد أقلع عنه أناس كثيرون ما كنا نعتقد أنهم سيتركونه.
وفي الفترة الأخيرة شكَّل البيضاني ثنائيًّا مع الشاعر الكبير المرح والمبدع المُلقب بملك الرد الشاعر/ أحمد الدرمحي، نسأل الله أن يمتعهما بالصحة والعافية وطول العمر، ونتمنى لهما ولجميع شعراء العرضة المزيد من التألق والإبداع والنجاح.
إن البيضاني من أبرز نجوم الشعر في الجنوب، وله في هذا الميدان حوالي نصف قرن، ويعتبر قدوةً في شعره وإبداعاته، وفي أخلاقه وسلوكه، وفي تشجيعه للشعراء الناشئين، وفي غيرته على التراث، ومن أجل هذا كله يستحق الاحتفاء به من قبل قبيلته بيضان، ومن قبل جميع قبائل زهران ومنطقة الباحة.
والله الموفق…