كنتُ أحرص على السفريات المتعددة والمختصرة مع رفيق أو بدون؛ وخاصة بعد ما سُهل السفر إلى أوروبا، وأصبحت هناك عدة شركات طيران تعمل في المملكة ولها عدة مسارات. فصرت أحاول كل عام أو عامين أن أقضي إجازتي في أحد البلدان، وبعد عدة سفرات بدأت أحدد البلد الذي أرتاح إليه أكثر في ذلك الحين، وهي لندن، ولكن كنت لا بد أن أعرج على بلد لم أزرها من قبل للتعرف أكثر على بلدان العالم، وقد زرت حوالي 40 دولة، وفي رحلة لي توجهت من باريس إلى إنتاريو في كندا وإلى نياجرا بالذات لأشاهد شلالتها، والتي تقع بين مدينة نياجرا في ولاية نيويورك ومدينة نياجرا في مقاطعة أونتاريو. فعلًا كان المنظر رهيبًا. واحترت وأنا أشاهده هل أمعن النظر في ذلك الإبداع الرباني العظيم فقط أو أيضًا إلى دهشة البشر من تلك اللوحة السريالية، والتي لا يمكن لأي يد بشرية من صياغة مثل تلك الأبهة وروعة الجمال والعظمة. إنها في نظري من عجائب الدنيا التي لم تُسجل. توجهت بعد ذلك إلى مونتريال وهي المدينة رغم كنديتها ينطق معظم سكانها اللغة الفرنسية، ويعود ذلك إلى استعمار فرنسا لها سابقًا. وصدفة كانت تعقد فيها ندوة مرورية وأفاجأ برئيسي آنذاك الفريق محمد بن رجاء -رحمه الله-، وكان آنذاك مديرًا للمديرية العامة للمرور برتبة عقيد؛ فاقترح عليَّ أن أنضم إلى تلك الندوة فقلت له أنا في إجازة فقال بكل ذوق: طلبتك.. قلت: تم. كانت رحلتي من مونتريال بعد الندوة بيومين إلى لندن ومتابعة إلى النرويج كبلد أزوره لأول مرة، وقابلت الفريق محمد وقلت له: وداعًا غدًا رحلتي إلى لندن، وكان من محبي لندن ورحلته بعدي بيومين فقال: أجل سأسافر معك قلت حياك، وظل طوال الرحلة يحاول أن ألغي سفري إلى النرويج وأنزل معه في لندن؛ فاعتذرت منه وقلت سأقضي في النرويج عدة أيام، وقد نلتقي على خير، وانتقلت إلى طائرة أخرى وسافرت إلى أوسلو عاصمة النرويج. كنت في رحلاتي أحجز في الفنادق مسبقًا وعندما سألت عن النرويج قيل لي: إنها ليست محورًا للرحلات الدولية، وستجد فنادق عديدة بها غرف شاغرة فلم أحجز. استقليت سيارة أجرة وبدأت معاناتي فعلاقة اللغة الانجليزية وبينهم ليست عامرة. المهم كلمة من هنا وكلمة من هناك مع لغة الإشارة مع السائق سددنا وقاربنا وإن كان بشق الأنفس والآذان؛ ولتسهيل الأمر سميت فندقًا شهيرًا وهو هيلتون فهز رأسه علامة أنه فهم، ويبدو على قول المثل خطف الكبيبة من رأس القدر، وتوقفنا عند أوتيل ربما أبو ثلاث أنجم أفضل منه واسمه على ما أذكر (هللن) وكان الاسم على مُسمى؛ فهززت رأسي مع تكشيرة صغيرة أبانت أني لا أريده. وبعد معاناة فهمت منه أنه قد افتتح منذ أيام قليلة فندق إسكندنافيا فقلت له قدام، وذهبنا فوجدته فندقا ضخمًا من عدة طوابق ومن الخارج زجاج أسود ولم يكن ذلك معتادًا فيما عهدنا الفنادق، وقلت له انتظر وعند الاستعلامات طلبت جناحًا صغيرًا فقيل لي لا يوجد فقلت لا بأس غرفة فقالوا: لا يوجد. ففسرت ذلك بأنه بسبب افتتاح الفندق حديثًا، ومن فندق إلى آخر والأجوبة كلها لا يوجد، وفهم السائق حيرتي فأشار أن لديه حلًا؛ فأومأت له بالشكر. وذهبنا إلى مركز استعلامات وهو عبارة عن كشك في وسط ساحة، وأبلغوني أنه توجد غرفة فقط شاغرة في كل أوسلو في فندق ما؛ فتنهدت فرحًا. وصلنا إلى الفندق والذي كان بدون نجوم إطلاقًا. فندق في عمارة مثل أي عمارة عادية سكنية لدينا. استغربت ذلك ولكن كان لا يزال للاستغراب بقية. صعدت إلى الاستقبال فإذا هو لا يزيد عن مساحة عشرين مترًا وموظف واحد وطاولة وكرسي فقط للمراجع. فقلت في نفسي تمضي الليلة وبعدين يحلها الله. ودخلت الغرفة وبها كان بها سرير حديد صغير، ولا مساحة للتحرك، وبيت الخلاء عام. وضعت حقيبة سفري وأردت أن أرتاح على السرير قليلًا الذي هو مشي حالك وخذ بالك من نفسك. فوجدت المخدة ملبكة وبها القطن كتلة هنا وكتلة هناك، وتذكرت أيام زمان عندما كنا ننام في الرطوبة في جدة والمخدة مثل مطبات شوارعها. وضحكت هل أنا في دولة أوروبية وإسكندنافية كمان؟! يا للعجب ولم أستطع أن أنام. ذهبت إلى موظف الاستقبال طبعًا لم أذكر له استيائي من تلك الغرفة. لأنه قد يطردني ولا يرد رأسي إلا الشارع. ولكن قلت له أنا مستغرب جدًا من أني لم أجد إلا غرفة واحدة في الفنادق ما هو السبب. فقال لي متعجبًا ظننتك قد جئت مخصوصًا لمشاركتنا هذا اليوم الجميل . فقلت له هل هو اليوم الوطني. فرد لا ولكن هو يوم الشمس فقلت أي شمس هذه. فشرح لي والخلاصة: أن النرويجيين اعتادوا أن يحتفلوا في أول ظهور “شمس منتصف الليل”، وهي أن تبدأ الشمس في الظهور في منتصف الليل ولا تغيب لعدة شهور في عدة مناطق في النرويج؛ وذلك بدءًا من أواخر مارس إلى نهاية سبتمبر، ويأتي بهذه المناسبة آلاف السياح لمشاهدة تلك الظاهرة وإلقاء نظرة على عظمة الخالق، والتمتع بجمال أشعة الشمس التي تريد كسر الظلمة الحالكة؛ لتُشكل اختراقات الإشعاعات البسيطة منظرًا بديعًا يأخذ بالألباب.… سبحان الله ألا اختار إلا هذا اليوم أنا شبعان من الشمس وما أبي الدفا. تمتمت بهذه الكلمات. فقال ما فهمت فقلت في نفسي أحسن. ورددت عليه.. إنها فقط كلمات إعجاب، وطلبت منه أن يحجز لي إلى لندن. فحجز لي عليَّ رحلة بعد ثلاث ساعات، وأخذت حقيبتي التي لم تفتح. ووجدت سائق أجرة يفهم الإنجليزية فقلت هل ممكن تمررني على أوسلو قبل ما أصل المطار. فقال نعم. وكان ثم انطلقت إلى المطار فلندن، وخرجت من الفندق وأنا أسير وبالقرب من فندق الدور شستر وجدت الفريق محمد يمشي ويناظر في واجهات المحلات التجارية؛ فجئت من خلفه ووضعت يدي على عينيه فقال: من؟ واستدار. فلما رآني أخذني بالأحضان وبفرح كبير وكأنما التقينا بعد غياب سنين. يا للعجب الدنيا صغيرة محض ساعات حدثت فيها أحداث كثيرة ومن لا لقاء إلا بعد حين؛ فقد تم في غمضة عين. أنصحكم لا تذهبون إلى أوسلو في يوم الشمس؛ فشمسنا غير ونص دوام .
0