المُعلم هو أكثر من (مدرس) يقتصر دوره على تلقين الطالب معلومة معينة.
لستُ أستخفُّ بدور التلقين، فلا غنى عنه في البناء المعرفي، ولكنني أقول: إن المعلم الحقيقي لا يقف عند هذه المرحلة، بل يعطيها حقها، ويتجاوزها إلى آفاقٍ كثيرةٍ دقيقة وجليلةٍ، تُسهم في صناعة الطالب وارتقاء نموه الذهني.
أتذكر في حياتي العلمية والتعليمية مواقف كثيرة متنوعة، ترسخ وتعزز هذه الحقيقة.
حين كنتُ في المرحلة الابتدائية بمدرسة الناصرية في حي المسفلة، كان يُدرسني مادة القواعد والإملاء والخط فضيلة الشيخ الأستاذ محمد المشاط. كان هذا الأستاذ الجليل يُعلمنا دون أن يتكلم كيف يكون المسلمُ نظيفًا، كان أنموذجًا عجيبًا في القيافة وحسن الهندام.
هذا وجهُ من الوجوه التي يتجاوز بها الأستاذ مجرد التلقين للمعلومة؛ ليغرسَ في تلميذهِ قيمةً تفيده في حياته كلها.
هناك وجهُ آخر أهم.. ذلك حين يتحوَّل الأستاذ إلى (رمز معرفي) في مجاله؛ فيغرس عندها في تلميذه معاني التحدي والتفوق والتميُّز، كم من جامعةٍ لم يقصدها الطلاب إلا لأن فيها العالم فلان!
كان عالم الفيزياء الشهير ألبرت أينشتاين يدّرس في جامعة كاليفورنيا، بيركلي في منتصف القرن الميلادي الماضي، وقد اشتهرت جامعة بيركلي بسبب هذا الرجل الكبير، وكان الطلاب يتدفقون على الجامعة؛ ليحظوا بشرف دراسة الفيزياء النظرية على يديه.
وكان أيضًا البرفسور ديفيد لندلي المُلقب بأبي الإحصاء اللامعلمي، أحد أعضاء هيئة التدريس في جامعة وسط مقاطعة ويلز البريطانية، جعل هذا العالم من جامعته مورد عذب للراغبين في الدراسات العليا في الإحصاء غير المعلمي بسبب السمعة الكبيرة لهذا الأستاذ الموسوعة، وفي دراستي العلياء بجامعة ويلز شرفت بأن أكون تحت إشراف البروفسورة سيلفيا لوتكنز إحدى طالبات هذا العالم الكبير في بداية القرن الميلادي الماضي.
وفي الكلية الجامعية بلندن اشتهر قسم طب الفم بالكلية على مستوى العالم بسبب وجود البرفسور كريسبين سكالي كأحد أعضاء هيئة التدريس بالقسم إلا ما قبل وفاته عام 2017م، كان هذا العالم الموسوعة متمكنًا من تخصصه لدرجة أن بعض أوراقه العلمية التي يقدمها تكون بدون استشهاد. وأصبحت جامعته محجًا للراغبين في دراسة طب الفم من جميع أنحاء العالم.
باختصار.. كُنّ أستاذًا حقيقيًا لا يكتفي(بتلقين) الطالب، بل يتجاوز ذلك إلى (تكوين) الطالب.
في قصيدته التي ألقاها أحمد شوقي في حفل دار المعلمين العُليا عام 1932م، قال:
وإذا المُعَلّمِ لم يَكُن عدلًا مَشي…روحُ العَدالةِ في الشبَابِ ضَئيلا
وإذا المُعَلّمِ ساءَ لَحظَ بَصيرَةٍ…جاءَت عَلي يَدِهِ البَصائرُ حولا
0