حكاية
اعتدل في جلسته وابتسم، وهو يستمع إلى حوار أصغر أبنائه … مع أمه وهو يطلب منها خمسين ريالًا؛ ليذهب إلى الحلاق.. قالت له وهي تمنحه نصف المبلغ الذي طلبه دعه يُقصر شعر رأسك.. رد عليها الابن بحزم: لا لا ..إنني أريد أن يحلق لي تسريحة كابوريا.. قالت له الأم صارخة: هذه التسريحة لا تليق بتلميذ مثلك على وشك أن يدرس في المرحلة المتوسطة .. رد الابن عليها قائلًا: بثقة ولكن كل زملائي في المدرسة وأصحابي في الحارة ولاعبي الكورة يفعلون .. ثم انصرف مسرعًا وقد خلف وراءه قهقة طويلة من أمه وهي تقول: جيل جديد.. بينما أشعلت كلمات ابنها السريعة ذكريات يوم بعيد…. وتذكرت حوارًا شبيهًا دار بينه وبين أبيه في إحدى الأمسيات وهم يتناولون طعام العشاء ..كان لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره أنهى لتوه المرحلة المتوسطة من دراسته، ويستعد للدراسة الثانوية بمدرسة الفلاح ..قال له أبوه غدًا تذهب عند عم درويش الحلاق وأعطاه ريالين أجرة الحلاقة، وهو يوصيه أن يحرص على أن يقصر من شعر رأسه الذي طال واسترسل ..حين غادر أبوه المجلس نظر لأمه يستعطفها أن تستأذن له من والده أن لا يذهب إلى عم درويش؛ لأنه لا يتقن تسريحات الشعر الحديثة.. قالت له أمه وهي تنهره لو علم أبوك برغبتك هذه لعاقبك.. قال لها منفعلًا ولكن أصدقائي في الحارة يتباهون بحلاقة رؤوسهم على طريقة فرقة الخنافس الإنجليزية المشهورين بموسيقاهم الصاخبة وأغانيهم وقصة الشعر التي يتميزون بها وبنطلونات الشارلستون الواسعة.. وعم درويش لا يعرف من الحلاقة إلا طريقة واحدة تواليت أو ماكينة تحول الرأس أقرعًا.. أخفت الأم ضحكة كادت أن تفلت منها.. وقالت له محذرة اسمع الكلام يا ولد..واذهب إلى عم درويش ودعه يشيل عش الغراب الذي فوق رأسك.. ويحلق لك شعرك كما طلب منك أبوك .. سكت على مضض وإن كان قرر في سره أن ينفذ ما يريد حتى لو كان من سيحلق له هو العم درويش.. والعم درويش لمن لا يعرفه حلاق الأسرة.. بل هو حلاق أهل الحارة كلها صغيرها وكبيرها.. اكتسب هذه المهنة بالوراثة أبًا عن جد وهو إلى جانب ذلك يقوم بمهمة أعظم من الحلاقة فهو الذي يتولى ختان أولاد الحارة والحواري المجاورة في اليوم السابع من ولادتهم.. وهو ماهر في مهمته .. يده خفيفة ومبروكه كما تقول أمه.. عصر اليوم التالي ذهب بخطى متثاقلة إلى دكان عم درويش.. كان الرجل داخل المحل مشغولًا بترتيب أدوات الحلاقة ورص أوانيها على الفترينة المتآكلة التي تحمل على أكتافها الواهنة مرآة عتيقة.. ابتسم عم درويش، وهو يطلب منه الجلوس على كرسي الحلاقة الوحيد في مواجهة المرآة المشروخة.. أمسك بالفوطة البيضاء ينظفها من بقايا شعر الزبون الذي كان قبله ويضربها في الهواء لتحدث الفرقعة المطلوبة ثم قام بربطها حول عنقه، وهو يسأل السؤال التقليدي تواليت أو ماكينة .. أجابه بشيء من الحزم أريدك أن تحلق لي تسريحة الخنافس.. اتسعت ابتسامة عم درويش وهو يقول له الخنافس مرة واحدة .. ثم واصل ضاحكًا أنني أعرفهم أليسوا هم أفراد الفرقة الذين استقبلتهم ملكة بريطانيا في قصرها، وأهدتهم جائزة كبيرة هز رأسه موافقًا بينما كان عم درويش ممسكًا بموس الحلاقة وهو يقوم بشحذ نصلها على الجلدة المعلقة بطرف كرسي الحلاقة ثم قام بفحص حدتها على جلد إبهام يده اليسرى..قبل أن يبدأ بوضع قطع من الصابون في وعاء صغير ومزجها بالماء .. وأخذ في تحريكها بالفرشاة حتى طافت رغوة الصابون خارج الإناء.. وهو لا يتوقف عن الحديث في أمور شتى وسؤاله عن أسرته وعن الدراسة.. ثم باغته بسؤال .. هل أخبرت والدك بما تريد أن تصنع .. رد عليه باقتضاب أمي تعرف وهي وعدتني أن تخبر أبي بذلك.. توقف صوت المقص وأكمل عم درويش مهمته بنجاح .. وبدأ في رش الشعر بالماء وأخذ يفركه بكلتا يديه قبل أن يقوم بتمشيطه من أعلى الأذنين إلى مقدمة الرأس.. غمز عم درويش بإحدى عينيه وظهرت علامات الرضا على وجهه، وهو يقول ضاحكًا خنفس وأبو الخنافس يا أبو عبس .. نهض من فوق كرسي الحلاقة وهو يمسح بقايا الشعر عن جبينه.. نظر إلى وجهه في المرآة من مختلف الزوايا.. لمس شعر رأسه برفق ونفح عم درويش الريالين وغادر المكان وابتسامة عريضة تعلو وجهه وسار في الطريق الممتدة منتشيًا والفرح يغمر قلبه .. توقف عند محل عم شكري بائع الدندرمة. واشترى لنفسه كوبًا بما تبقى معه من مصروف المدرسة ..أخرج طاقيته من جيب الثوب وأحكم وضعها على رأسه حتى غطت أذنيه، واستعد لمواجهة عتاب أمه وعقاب أبيه..
عبد العزيز التميمي- جدة