اسمحوا لي أن أرجع بكم إلى الوراء.. وتحديدًا إلى عام 1932م، حين أنشد أمير الشعراء “أحمد شوقي” رائعته الذائعة: (قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِهِ التَبجيلا)، في حفل قام به نادي مدرسة المعلمين العُليا بالقاهرة، لما فيها من قيم عُليا تحث على العلم والتعليم، وتُعظم، وترفع من مكانة المعلم في المجتمع.
استوقفني في هذه القصيدة بيتٌ غير ذائعٍ ولا شهير، هو قوله :
يَــا أَرْضُ مُــذْ فَــقَـدَ الْـمُـعَـلِّـمُ نَـفْـسَـهُ… بَـيْـنَ الـشُّـمُـوسِ وَبَـيْـنَ شَـرْقِكِ حِيلَا
تعجبتُ من هذه الإشارة البلاغية البديعة، وتساءلتُ: كيف يفقدُ المعلمُ نفسه؟!
ثم .. لماذا إذا فقد المعلمُ نفسه حيل بين البلادِ وبين شمس الحضارة والتقدم؟
هذه (الفكرة المركزيّة) أظنّ أن مجال القول فيها لم ينضب بعد، وأنها منطقةٌ بكرٌ صالحةٌ لكثير من التحليل والنظر والتفكير.
فلننظر معًا .. كيف يفقد المعلم نفسه؟
إنّ المعلمَ الحقَّ مزيجٌ من خمسةِ عناصر: دينٌ يعصمُه، وعقلٌ يُكرمُه، وعلمٌ يلهمُه، وأخلاقٌ تقوِّمُه، ومهارةٌ تقدّمُه.
ويفقدُ المعلمُ من نفسه بمقدار ما يفقد من هذه العناصر.. فإذا فقدها كلها فقد نفسه.
وإذا تأمَّلنا ما سبق أدركنا أن (التطرُّف) من أعظم الأسباب التي تُفقد المعلمَ نفسه. سواءً كان تطرفًا لليمين بالغلو في الدين، أو كان تطرفًا إلى اليسار بالانحلالِ والتفلتِ من الدين.
ذلك أن التطرف عدوانٌ على هذه العناصر كلها ..
فالتطرفُ عدوانٌ على الدين؛ لأنّه مخالفةٌ لأوامره ونواهيه .
وعدوان على العقل؛ لأنّه جنوحٌ عن الصواب .
وعدوانٌ على العلم؛ لأنّه قفزٌ فوق النصوصِ الشرعية وكلام الأئمة .
وعدوانٌ على الأخلاقِ؛ لأنّه يُفضي إلى امتهانِ حقوق الآخرين .
وعدوان على المهارةِ؛ لأنّه يجعل صاحبه يطوّع براعته في اجتراح ذلك العدوان .. بل في تبريره أيضًا!
إن المعلم هو الركن الأساسي في العملية التعليمية، إنه هو المسؤول الأول عن حمل رسالة العلم على عاتقه، حتى يغذي بها عقول النشء، لينهضوا بمجتمعهم ويكونوا قدوة حسنة لغيرهم.
0