المقالات

الأمن وأبعاده (٣-٣)

ليس ثمة أمة واعية عبر التاريخ البشري كله تستنكف العناية بالأمن، ولكلٍ رؤيته ومنهجه في توطيد الأمن وتعزيزه وحمايته، وانطلاقًا من أدبيات الرقي البشري، فقد حازت الدراسات الأمنية المعاصرة نصيبَ الأسد من الاهتمام والإلمام بفروع المعرفة الأمنية وتخصصاتها المختلفة، ونالت الدول المتقدمة قصبَ السبق في هذا المضمار وجني ثماره، وتلاشت في واقعها الاضطرابات الأمنية والحروب الأهلية، وساد الاستقرار والأمن في ربوعها، وسقطت نظرية الإمام العلّامة (ابن خلدون رحمه الله) القائلة بتحديد عمر (الدولة) بزمن ١٢٠ عامًا، بينما تجاوزت أعمار الدول المتقدمة المائتين، وتوافقت نظريته (رحمه الله مع واقع دول العالم المتخلفة)، مما يثبت أن الأمن ابتداءً ثقافة، ووعي وبصيرة، وبيئة نقية، ومناخ نظيف، مما يُملي علينا تلقينه الشبيبة في مراحل التعليم المختلفة، وقد قرنه الإسلام بالعقيدة الصحيحة، والعبادة، والأخلاق، والمعاملات، ويضيق المقام في عرض الأسباب الداخلية والخارجية التي أوقعت الأمم المتخلفة في براثن الفوضى وعدم الاستقرار، والذي يهمنا في هذا المقام أن نقتبس من منثور الحكمة السياسية المعاصرة، ما يُفيد عالمنا العربي والإسلامي الذي تعرَّض أكثر من غيره للاضطرابات والمؤامرات الأمنية، ودارت في ربوعه رُحى تحولات، وتغييرات هائلة ومدمرة ولا سيما قبيل الاستعمار، وخلاله، وفيما بعده، ولا تزال تُحاك ضده المؤمرات حتى الآن من السادة والعملاء معًا، وتفعل فعلها فيه تخلفًا، وهدمًا، وصراعًا، وتم إقامة قوى وكيانات مارقة، بإيعاز من المتنفذين في العالم لإثارة الاضطرابات، والفوضى، والحروب المبيرة والمدمرة، في ربوعه بمعدل كل (عشر سنوات) تقريبًا، من أجل إيقاف حركة التنمية، واستنزاف خزينة الدولة العربية المعاصرة وإرهاقها بالديون، وإنعاش صناعة الأسلحة وسوقها لدى الطرف الآخر، ولا تزال القوى المتغطرسة تفعل فعلها الكارثي والإجرامي في تشتيت العرب ودولهم وشعوبهم، وإفراغ خزائنهم حتى الساعة، وبهذا الاستعراض المختصر الذي ينصب في غالبه على الجانب الأمني الخارجي، يدور اليوم أوار صراع أمني ثقافي مرير وأحمق، بين النخب العربية حول الهوية الحضارية والثقافية للعرب، ويزداد عتوًا وعنفوانًا مع تعاقب الزمن دون ملل ولا كلل، ولا يكاد يهدأ حتى ينبعث مرة أخرى، مما هجرته الدول والشعوب المتقدمة والأمم الواعية وراءها ظهريًا، واتجهت بكل أطيافها نحو البناء دون تهميش أو إهمال لقبيل دون آخر، والذي أقترحه على مجلس وزراء الداخلية العرب (إن كان لا يزال حيًّا) ضرورة صياغة نظرية أمنية عربية موحدة تستقي صياغتها من الإسلام، وتُعنى ابتداءً بضرورة تقوية أمن الدولة العربية المسلمة والمتطورة والمتماسكة من الداخل، ابتناءً على البيعة الشرعية لولي الأمر، ومؤازرته بالطاعة، ومناصحته في صبغة تنظيمية علمية وعملية معاصرة، وتحكيم شرع الله بصبغة شمولية لكل مناحي الحياة، والقضاء المبرم على الخلافات المفتعلة والمصطنعة التي تلوكها الألسن وتديرها الجماعات والأحزاب الغبية والعميلة، والاهتمام بجمع الكلمة، وإماتة الفتنة، ونبذ التعصب والعنصرية، ومحاربة المذاهب الفكرية والتيارات المنحرفة، وإنهاء حروب (داحس والغبراء) الفكرية المعاصرة، وتعزيز مبدأ الشورى وترسيخها، وإيلاء البحث العلمي، وتشجيع العلماء وذوي القدرات الإبداعية والعبقرية بما يليق بهم ويستحقونه، والتركيز على امتلاك كل بلد عربي لغذائه، ودوائه، وسلاحه، فتلك عناصر وركائز أساسية أمنية لانعتاق كل بلد عربي ومسلم من الاستعمار الجديد، متى أردنا لعالمنا العربي أمنًا سابغًا ونهضة حقيقية، وأحسب أن التعويل على العنصر الأجنبي الوسيط في حل الأزمات العربية يجب أن ينتهي فورًا وبلا رجعة، فهل خلا العالم العربي من الخليج إلى المحيط من المؤسسات العمومية ومن الحكماء والعلماء؟؟!!! حتى يُستعان بأجنبي يعمل وينفذ أجندة أسياده الأجانب ويُعمق الخلافات بين العرب بدلًا من حلها، وقد آن الأوان لتجديد وقلب ظهر المجن للجمود الفكري والفقهي، وبعث روح النهضة والوحدة العربية، وفق أدبيات وأصول الاجتهاد الجماعي المؤصل في الإسلام، إذ لا مستقبل آمن ومبدع وناهض وقوي للعرب والمسلمين إلا بالنهضة في ظل الإسلام، ونبذ التقليد والجمود الفكري، كما قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله)، لا سيما أن الإسلام ليس دينًا كهنوتيًا يقول: (ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) بقدر ما هو دين وفقه شامل وكامل وقابل للاجتهاد والاقتباس من كل علم مفيد، ولم يحرم إلا ما ضرَّ على العقل، والجسد، والدين، والأخلاق، أو الآخرين.
وتدل الوقائع المريرة على الأرض أن قرابة ست دول عربية قد وصلت إلى حد الانهيار الأمني أو تكاد، والبعض الآخر تُحاك له المؤامرات، وتُدبر له الخطط الشريرة، التي ظهرت مقدماتها إلى العلن، وخرجت من بؤبؤ المؤامرة ولبوسها إلى عالم الواقع المنظور.. إلخ، وشُرع فعلًا في تنفيذها بصور مخاتلة وخادعة وتدريجية.
فهل من إفاقة، ووحدة، ووعي عربي، يصلح ما فسد، وترميم ما تعطل، وبناء ما انهدم لبناء بُنية تحتية قوية، تُعنى بالأمن وترسيخه بكل معانيه وأطرافه المختلفة؟؟!!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى