من بيوت الحجر والطين هناك حيث رسمت الجدات فنون «القط العسيري» – بفتح القاف وسكون الطاء – على جدران ذاكرة ما زالت تحنو لرائحة المكان ، وتسمو بوجه الزمان نحو مساحات إبداعية تحمل رسالة الإنسان العسيري حيث حياته، ثقافته ، ملامحه، وهويته وتعايشه مع الحياة ومجتمعه البسيط ، وعلاقاته الحميمية التي أحدثت فناً استثنائياً راقياً يأخذ من ذات الألوان الخضراء والصفراء والزرقاء والحمراء بوحاً يناغي به كل فنون العالم التشكيلة ، إسقاطات نفسية مستمدة من ذات البيئة العسيرية التهامية تحديداً..
ومن باريس مدينة الثقافة والفنون حيث مقر منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة ” يونسكو” تأتي ورقة الإنصاف والاعتراف بهذا الفن العسيري الخالد الذي ظل عقوداً طويلة يباهي العالم بألوانه ورسومه الفنية ذات التوافق والانسجام الفني والحسي .
فن «القط العسيري» الذي لم ير في الواقعية ما يناهض وجدانيته الباذخة فاتخذ من المدرسة التجريدية مسلكا نما مع الوقت كي يصبح فنا فريدا متمايزا عن بقية الفنون التشكيلية، هذا القط العسيري التجريدي الذي لا يعترف بالرسوم التقليدية والكلاسيكية، وإنما إيحاءات نفسية وجدانية بيئية تنهض على أنقاض المدرسة الكلاسيكية من خلال مجسمات فنية إبداعية تأخذ من الأشكال الهندسية بعدا جماليا خياليا نفسيا يتماهى مع روح التأصيل والتاريخ لهذا الفن الأنثوي الرائع، والخالد بخلود فناناته اللاتي صنعن فنا حضاريا رائدا وسفيرا لكل الفنون العسيرية ذات الدلالات الإنسانية العميقة !
هذا الفن الذي ظل وما زال صنعة احترافية نسائية تعتمد على الفكرة أولا ومن ثم الانتقال لأرواح الألوان التي تنطق جمالا آسرا يزين جدران البيوت العسيرية الداخلية فتبدو وكأنها لوحات زاهية تنادي العاشقين لاحتساء قهوة جنوبية في بيوت رجال ألمع وطن القط العسيري ووطن الفن القديم الجديد!
وما ” اللحاف الدريهمي” المقلَم بألوانه الزاهية و “الحضية ” و” البترة” و”المشقة ” و” السق” إلا انعكاس توافقي جاذب يغري كل الباحثين عن عمق هذا الفن الذي لا يؤمن بالتقنية الهندسية الآلية بقدر إيمانه الكبير بريشة الفنانة العسيرية التقليدية والذي يجعله مثارا للنقاش والبحوث، وفي ذات الوقت مثيرا للدهشة والإعجاب والذهول حتى في تفاصيل تلك الريشة المعجزة التي نقشت هذا الفن العظيم، ولعل رائدة التجديد لفن القط العسيري هي الفنانة التشكيلية فاطمة أبوقحاص ” رحمها الله ” التي حملت على عاتقها نهضة التجديد كانت مؤمنة بجمالية هذا الفن وأنه سيصل للعالمية متى أدرك الباحثون قيمته وأصالته الفنية من مدينة العطور الفرنسية باريس كانت وثيقة الحب الكبير التي منحت فن ” القط العسيري ” شرف العالمية، وهو منجز يسجل للسياحة السعودية فهي من تبنت فكرته وعرضه وطرحه على منظمة اليونيسكو التي بدورها وضعته في قائمة التراث الثقافي العالمي ..
تلك الزخارف التهامية الملونة عبرت كل قارات العالم لتخبر العالم بأن الإنسان الجنوبي التهامي صديق بيئته على مر العصور، فقد طوع بيئته كي تتناغم معه في كل جوانبه الاجتماعية والحياتية .
ومضة :
تقول الباحثة في فن ” القط العسيري” الدكتورة هيفاء الحبابي : ” نحن نفتقد كثيراً روح العمل الجماعي، وهو ما تمثله ممارسات النساء عند قيامهن بتزيين بيوتهن، فأمسينا للأسف الجار لا يعرف جاره، وحتى عندما بدأ الجيل الجديد بالقيام بالأعمال الاجتماعية التطوعية، طاله من النقد ما طاله وتناسوا أننا كمجتمع بدوي أو ريفي , حضري أو قبلي تاريخنا مفعم بالعمل الجماعي.