المقالات

وداعًا صاحب (العيش في مكة)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد؛ فهذه كلمة وداع دامعة، تُعبر عن حزن مُمض، ولوعة مُلتاعة، إنّها دمعة حزينة نذرفها، في وداع المربي والأديب والكاتب واللغوي والإداري الحازم الفقيد الكبير والراحل العزيز الأستاذ الشيخ/ عبد الرزاق ابن الشيخ المحدث العلامة محمد بن عبد الرزاق حمزة (ت ١٣٩٢هـ) إمام وخطيب المسجد الحرام والمدرس بالحرم الشريف ومدير دار الحديث بمكة المكرمة، رحمهما الله تعالى رحمة واسعة، وجبر مصابنا فيهما، وأحسن عزاءنا، وأعظم أجرنا في فقدهما.
لقد كان الفقيد الكبير الأستاذ: عبد الرزاق بن محمد حمزة، من القلائل في هذه الحياة الدنيا الذين منَّ العزيز الرحيم عليهم وآتاهم من السجايا ما يعزّ نظيره ویندر مثيله، ولا يتأتى كثير منه، إلا للصفوة من عباده، والثلة الكريمة الممتازة من خلقه، إذ جمع الله له -رحمه الله – بين سعة العلم، ودماثة الخلق، وطيب القلب، وسلامة الصدر، ومحبة الخلق، مع غيرة محمودة منضبطة على دين الله عمومًا، وعلى سنة سيد ولد آدم – خصوصًا، ورغبة صادقة في الحظوة بشرف خدمة هذا الدين، والإسهام في مد رواقه ورفعة شأنه، وحياطته وصيانته من جهالات الجاهلين وعدوان المعتدين وسوء قول وعمل الذين لا يعقلون، ممن لا يرجون الله وقارًا، على أنهم لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا، ولا يملكون موتًا ولا حياةً ولا نشورًا.

ولا عجب في كل أولئك: مما أذكره، ويعلمه منه ويستيقنه من حال الفقيد الكبير كل من له أدنى صلة به، وأيسر معرفة بشخصه الكريم، فقد كان خريج تلك المدرسة العظيمة ذات النهج الفريد التي قام على تأسيسها وإقامة بنيانها ورعايتها حق رعايتها: والده العلامة الكبير الشيخ محمد بن عبد الرزاق حمزة (ت ١٣٩٢هـ) رحمه الله رحمة واسعة..
هذه المدرسة الحديثية الفقهية الجامعة بين العناية الفائقة بسنة رسول الهدى-صلى الله عليه وسلم-، وعلومها ورجالها وكتبها ومصنفاتها، وكل ما له صلة بها، وبين الالتزام – أيضًا – بهذا التراث العلمي العظيم النّادر، الذي تركه فقهاء الإسلام من الأئمة الأعلام كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد -رحمهم الله- جميعًا، ومن بعدهم كالأئمة الستة: (البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه)، والدارمي والدارقطني وابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وغيرهم من أئمة الحديث وأعلامه وجهابذة رجاله، ومن بعدهم من أئمة الهدى كابن عبد البر النّمري الأندلسي والخطيب البغدادي ومحيي الدين النووي وابن الصلاح الشهرزوري، وأبي الفضل العراقي وشيخ الإسلام ابن تيمية الحراني، وتلميذه الإمام ابن قيم الجوزية ومؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي، والحافظ المفسّر ابن كثير الدمشقي والحافظ العلامة ابن رجب الحنبلي، والحافظ الجهبذ ابن حجر العسقلاني، وغيرهم من أئمة الهدى وبحور العلم؛ في توازن بيِّن ووفاء محمود مشهود لهم، واستيعاب وتمثل لما تركه هؤلاء الأئمة، وما خلفه هؤلاء الأعلام من علم وما أرسوه من قواعد، وما أصلوه من أصول، وما وضعوه من مناهج، تضبط للمتعلم المسالك التي تأخذ بيده على طريق السلامة من الزيغ، ومن التّردي في وهدة الضلال، وتحفظه من الوقوع في مهاوي الابتداع في دين الله أو اتباع غير سبيل المؤمنين. فلا ريب أن يكون الفقيد الكبير الأستاذ عبد الرزاق حمزة ماضيًا على هذه السّبيل، مؤثرًا لها على ما سواها؛ إذ هو خريج مدرسة والده هذه، مع ما كتبه الله له من تخرج في مؤسسات علمية ذات سمعة رصينة ومكانة مكينة، حيث تخرج في كلية المعلمين (كلية التربية) في مكة المكرمة، كما حصل فيما بعد، في أثناء عمله الوظيفي في وزارة المعارف (وزارة التعليم) على درجة الماجستير من إحدى الجامعات المعتمدة في الولايات المتحدة الأمريكية. وكانت للفقيد – بعد تخرجه من كلية التربية – جولات موفقة، وإسهامات ناجحة، في مجالات التدريس أولًا، ثم في ميادين التربية والتعليم الأخرى؛ حيث عمل في وزارة المعارف (التعليم) حينًا من الزمن في الإدارة والتوجيه التربوي، والقيادة للتعليم الثانوي بالوزارة وغير ذلك من مجالات التربية والتعليم.

ثم انتقل بعد ذلك مديرًا عامًّا لهيئة التحقيق والتأديب بمنطقة مكة المكرمة مدة الزمن، ثم أعقب ذلك توليه عمل مستشار لوزير الحج على عهد وزيرها معالي الشيخ عبد الوهاب عبد الواسع -رحمه الله-، ثم على عهد وزيرها معالي الشيخ محمود سفر -رحمه الله-.. كما كان عضوًا في مجلس إدارة مؤسسة عكاظ الصحفية سنوات عدة.
وكانت له -رحمه الله – في ميدان الصحافة مشاركات رائعة حين كان يكتب مقالات في زاويته الأسبوعية في صحيفة عكاظ: (المشكاة)، إذ كتب فيها نحو مئة مقالة في موضوعات شتى من العلوم والآداب، تميزت بالشمول، ودقة الطرح، والتّوازن، مع جمال السَّبك الجامع بين بلاغة العبارة، والبُعد عن الإغراب في الألفاظ أو التعقيد في التراكيب، وآية ذلك: المقالات التي جمعها بين دفتي كتاب نحله عنوانًا طريفًا:
(العيش في مكة)؛ ومبعث طرافته: أنه اقتبسه من عنوان مقال له فيه، تحدث فيه عن ذكريات جميلة ووفاء عزيز لمكة بلد الله الحرام الذي ولد فيه ونشأ وتعلم فيه جميع مراحل الدراسة، وقضى فيه صدرًا من عمره، ودهرًا من أيام زمانه الفسيح رحمه الله.

وللفقيد الكبير منقبة عظيمة أخرى، لا يصح ختم هذه المقالة دون التعريج عليها أو الإشارة إليها، ألا وهي عنايته الفائقة واهتمامه العظيم بنشر تراث والده العلامة الشيخ محمد بن عبد الرزاق حمزة -رحمه الله-، حيث عني بنشر طائفة من مؤلفاته بعد وفاته على حسابه الخاص، كان في الطليعة منها:
• (الله رب العالمين في الفطر والعقول والأديان) [مصر : الطبعة الأولى، ١٤٢٩هـ].
• وكتاب: (التوحيد) للإمام جعفر الصادق، الذي نشره وحققه وعلق عليه [مصر: الطبعة الثالثة، 1430]
• وكتاب: (اختصار علوم الحديث) للإمام الحافظ ابن كثير، الذي كان والده الشيخ محمد بن عبد الرزاق -رحمه الله- أول من نشره وأبرزه بإخراجه من عالم المخطوط إلى عالم المطبوع في مكة المكرمة في الخمسينيات الهجرية.
• وكتاب: (رسالة الصلاة: أوقاتها، كيفيتها، أنواعها).
• وكان في نيته أيضًا: إعادة طبع كتاب والده الشهير: (ظلمات أبي رية أمام أضواء السنة المحمدية) لكن سبقه إلى إعادة نشره ناشرون آخرون؛ فمنهم من أعاد طبع الكتاب على مثال الطبعة القديمة، ومنهم من انتهض لصفه وتنضيده وتحقيقه وتنسيقه، في طبعة حديثة، كما في طبعة دار الميراث النبوي (١٤٤٢هـ).
وإن مما ليس في الإمكان نسيانه: تلك الجلسات الخاصة الكثيرة جدًّا لي معه على مدى سنوات مديدة، في غرفته (ديوانه) المطل على البحر، القريب من ميناء جدة الإسلام؛ حيث كنت أزوره وقت الضحى؛ فأمكث عنده السّاعتين والثلاث أو أكثر من ذلك أحيانًا: مستفيدًا من غزير علمه، وواسع خبرته، وعميق تجربته، وحُلو حديثه، وجمال استقباله العامر بالود والمحبة والبشاشة (والقفشات!) المرحة الطريفة الضاحكة التي لا يخلو منها مجلسه ولا يغادرها حديثه، في دعابة يمزجها بالجد، وإحماض يخلطه بالظرف، تأثرا بطريقة أعلام العلماء وأكابر الفقهاء، الذين كانوا يخلطون – في مجالس الدرس – بين الفوائد التي هي من صميم العلم وبين الطرائف والنّوادر المستملحة التي تخفف على الطلاب ثقل الجد وتذهب عنهم كدر السّامة وتنشط عقولهم، وتنبه أذهانهم، وبذلك تكون دروسهم جامعة بين الإفادة والإمتاع الذي يستهوي القلوب والأسماع، فيبلغ من التوفيق مبلغًا عظيمًا لا خلاف عليه ولا نزاع.
فرحم الله الفقيد الكبير الأستاذ الشيخ/ عبد الرزاق ابن العلامة الكبير الشيخ محمد بن عبد الرزاق حمزة؛ وغفر له في المهديين، ورفع درجاته في عليين، وألحقه بصالح سلف المؤمنين: مع الذين أنعم الله عليهم من النّبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا؛ ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليمًا.

وكتبه
تلميذه وابن شقيقـته
أسامة بن عبد الله خياط
إمام وخطيب المسجد الحرام
والمدرس في الحرم الشريف
صبيحة يوم الثلاثاء
1445/7/4هـ
بمكة المكرمة حرسها الله وشرفها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى