(عِلْمٌ وتَعَلُّم، تقدُّمٌ ونجاح، قوةٌ وازدهار، ثقافةٌ ومعرفة، لا تتأتى إلا بالمال؛ فهو القوة الحقيقة التي دفعت الأمم والأفراد للنهوض بمجتمعاتهم، والسعي نحو التطوُّر والتجديد، فتمويل التعليم لا يتحقق إلا بقوة المال، فهو من يُحدث فارقًا بين مختلف الدول؛ حيث إنه عامل جوهري لتوفير الموارد المادية والبشرية لتحقيق أهداف العملية التعليمية بكفاءة وجودة وتميُّز؛ ما يجعله يسمو ويرقى بالأمم لتصل إلى أعلى القمم كبرج مُشيد بقوَّة المعرفة والعمل.
ومع ما يتميز به العصر الحاضر من تسارع وتيرة التطور والتغيُّر المستمر أثّر على الجوانب الاقتصادية، والاجتماعية، والتكنولوجية، ما دفع هذه الحكومات لإيجاد بدائل لتمويل التعليم لكونه أصبح ضرورةً ملحةً تفرضها التوجهات نحو جودة التعليم، والكفاءة، والنوعية، وقد تفرَّدت كل دولة بأسلوبها الخاص في تمويلها لتعليمها، فمنهنَّ من اعتمدت على المخصصات الحكومية بشكلٍ كامل، ومنهنَّ من اتجهت نحو الشراكة سواء كان ذلك مع الأفراد، أو المؤسسات، أو القطاعات الخاصة ولو وقفنا قليلًا أمام هذا الأمر؛ لوجدنا أن التمويل الحكومي لم يعد وحده دافعًا للتطوير ومصدرًا أساسيًا للتمويل، كما أن الدول العربية شأنها شأن الدول الأخرى، تواجه تحديًا كبيرًا أمام هذه الخضم من الأحداث المتنوعة في إيجاد إستراتيجية فعَّالة تنمِّي مواردها المالية بشكلٍ ذاتي، وتقلِّل من الاعتماد على التمويل الحكومي للتعليم.
وفي ظل مُسايرة الظروف ابتكرت المملكة العربية السعودية بدورها القيادي البارز وبرؤيتها الطموحة 2030 المتميزة التي تحمل في طياتها الأمل، والتفاؤل، والأمان، وكنقلة نوعية لتوفير مصادر تمويلية مختلفة، كهدف من أهدافها الإستراتيجية التي تعمل على تحقيقها، “فدائمًا ما تبدأ قصص النجاح برؤية، وأنجح الرؤى هي تلك التي تُبنى على مكامن القوة”، ويتم ذلك من خلال رفع شراكة القطاع الأهلي والخاص في صناعة التعليم؛ وذلك نتيجة اعتبارات عديدة كاضطراب الأوضاع الإقليمية وارتفاع أسعار البترول، ممَّا دعا إلى ضرورة إشراك كافة تنظيمات المجتمع لتوفير مصادر تمويل متنوعة مستقلة عن الدعم الحكومي؛ وذلك بغية تخفيف العبء عن كاهل الإنفاق الحكومي. كما قال الشاعر: “إذا العبءُ الثَّقيلُ توزَّعته … رقابُ القومِ خفَّ على الرِّقابِ”
فنحن عندما نتحدث عن الشراكة يتبادر إلى ذهننا قوله تعالى: (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) [طه: 32]، فهذه دعوة للشّراكة بين بني الإنسان مهما بلغوا من علو المراتب، ومهما امتلكوا من إمكانات وقدرات، فالنبي موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ على الرغم من المعجزات التي حباها المولى -عزّ وجل- له إلا أنه طلب من الله -عزّ وجل- أن يكون هارون شريكًا له في أمره، ونستنتج من هذا أن الشراكة هي اللبنة الرئيسة في أيِّ مجتمع يمتاز بالتحضُّر والتقدُّم على كافة الأصعدة، كما قيل في الحكم: “فاجتماع سواعد البشر يبني الوطن”.
وما إن بدأنا بالحديث عن الشراكة حتى برزت الشراكة المجتمعية كأحد أهم المفاهيم المستحدثة التي تتبنَّاها العديد من المؤسسات التعليمية؛ نظرًا لكونها إحدى الآليات المهمة في تحقيق الأهداف الإستراتيجية للتعليم في المجتمع، مثل تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، والسير في اتجاه دعم مجتمع العمل والمعرفة، كما تُعد الشراكة شكلًا من أشكال التعاون؛ حيث “إنَّ التَّعاون قوَّةٌ عُلويةٌ” ونوع من التقارب الذي يحدث بين المؤسسات، وهي في حقيقتها عقدٌ أو اتفاقٌ بعيد المدى يحدث بين جهتين أو أكثر، ويقوم على التعاون بين الشركاء.
وتُعد العلاقة التشاركية بين المؤسسة التعليمية والمجتمع المحلي أحد الأبعاد الأساسية في دعم العملية التعليمية؛ لما لها من آثار إيجابية تنعكس على مُخرجات التعليم؛ لذا تسعى وزارة التعليم في المملكة العربية السعودية إلى تفعيل دور مؤسسات المجتمع الحكومية والخاصة بصورة أكبر في دعم العملية التعليمية، ويبرز هذا التوجه من خلال تحقيق الخطة الإستراتيجية للوزارة بتعزيز الشراكات المحلية.
وهذا ما تسعى رؤية المملكة العربية السعودية 2030 إلى تأكيده كضرورة لتفعيل الشراكة مع القطاع غير الربحي، والقطاع الخاص بما يدعم التنمية المستدامة للمجتمع والتعليم، وقد رحب ولي العهد محمد بن سلمان بشراكة القطاع الخاص؛ حيث ذكر في أحد لقاءاته: “أرحب بالقطاع الخاص ليكون شريكًا، بتسهيل أعماله، وتشجيعه، لينمو ويكون واحدًا من أكبر اقتصادات العالم، ويصبح مُحركًا لتوظيف المواطنين، ومصدرًا لتحقق الازدهار للوطن والرفاه للجميع، هذا الوعد يقوم على التعاون والشراكة في تحمُّل المسؤولية”، كما اشتمل برنامج التحوُّل الوطني 2020 على هدف المساهمة في تعزيز الشراكة مع القطاع الخاص؛ حيث إن مساهمات القطاع الخاص توفر نحو 40 % من الإنفاق الحكومي على المبادرات والمشاريع التعليمية، وتُعد تكلفة التعليم في المملكة العربية السعودية مرتفعةً إذا ما قورنت بالدول الأخرى؛ حيث تُقدر النسبة بـ(٥,٧%) من الناتج المحلي الإجمالي في المملكة العربية السعودية، مقارنة بالمملكة المتحدة (٥,٣%)، وألمانيا (٤,٣)، وكوريا الجنوبية (٤,٢%)، وتعتبر مساهمة القطاع الخاص من العوامل التي تسهم في تخفيف عبء الإنفاق الحكومي على التعليم، ورفع إجمالي الناتج المحلي، حيث إن التعليم مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع.
وتُمثل الشراكة المجتمعية إحدى الأدوات التي تُساعد في دفع عجلة التنمية المستدامة لأيِّ مجتمع، من خلال إسهام المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية في الإنفاق الحكومي، والتمويل لإنجاح البرامج التعليمية التي تسهم في دعم عملية التعليم والتعلُّم في المؤسسات التعليمية.
ومبدأ الشراكة المجتمعية ليس بجديد علينا، أو أنه فلسفة غربية، وإنما هو من توجيه إسلامي حثنا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، يتمثل في أن يكون للفرد المسلم دور مؤثر في مجتمعه الذي يعيشُ فيه، ونحو الآخرين في المجتمع الذي يحيا فيه، فالشراكة التي يحث عليها الإسلام هي شراكة المسلم لأفراد مجتمعه في كافة الجوانب المختلفة، كالجانب التعليمي، ودعم الشراكة المجتمعية فيه؛ لكونها تعمل على توفير الموارد المالية والمادية اللازمة لتجويد التعليم، وبالتالي ترشيد الإنفاق الحكومي على التعليم، كما تسهم في تحسين جودة المنتج التعليمي، بما يكفل إيجاد مواطنين صالحين لديهم وعي بواجباتهم وحقوقهم نحو مجتمعهم، وتعميق روح التعاون بين الأطراف المشاركة، امتثالًا لقوله تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى) [المائدة، 2]، فالله تعالى أمر عباده بالتعاون في فعل الخيرات، وعليه فالشراكة المجتمعية هي عملية تعاونية تظهر استعداد المجتمع للإسهام الحيوي والفعَّال في تحسين التعليم وتطويره، وتعزيز سمة التكافل في المجتمع المُسلم الذي يسعى بإمكاناته البشرية والمادية لتمويل العملية التعليمية من أجل تجويد المخرجات التعليمية، وجعلها فعَّالة في أي زمانٍ ومكان.
0