لا يزال في الذاكرة حين كنت أسير بعد انتهاء الصلاة في ساحات الحرم المكري الشريف عقب موسم شهر رمضان المبارك في إحدى السنوات؛ اعترضني رجلٌ كبيرُ في السنّ، قد انحنى ظهره، ورقّ عظمه، وضعف بصره، فقال لي: هل تُجيد اللغة الإنجليزية؟ فقلت له: نعم أجيدها، فسألني أن أوصله إلى عنوان مكتوب عنده، فقمت بما يجبُ لمثلهِ من ضيوف بيت الله الحرام، وبعد أن وصل لمسكنه سألني عن عملي، فأخبرته بأني حديث التخرج في جامعة ويلز البريطانية، وأني أستاذ مساعدٌ في قسم الإحصاء بكلية العلوم بجامعة الملك عبد العزيز، فنظر إليَّ طويلًا ثم قال لي: هل تعرف البرفيسور “منير أحمد”؟ قلتُ له: وأي إحصائي لا يعرفهُ وهو العالم الكبير المشهور، والباحث القدير في مجالات الإحصاء الرياضي اللامعلمي؟ عندها تبسَّم ضاحكًا وقال لي: أنا البرفيسور “منير أحمد” بلحمه وشحمه!
حدثت أحداث هذه القصة قبل حوالي (30) سنة، حين قدمت إلى المملكة حاملًا درجة الدكتوراة في الإحصاء التطبيقي من جامعة ويلز البريطانية.
بعدها بأكثر من (20) سنة، استضافت جامعة أم القرى إبان تشرفي بإدارتها معالي الدكتور “أوجانج ” مدير جامعة ماليزيا للتقنية، هذا الرجل العالم الذي سجل عشرينَ ملكية فكرية وقتها، ونشر أكثر من (250) ورقة علمية وألّف حوالي (27) كتابًا! جاء هذا العالم الفذ الدكتور “أوجانج” حاجًا لبيت الله الحرام، فاستضافته الجامعةُ محاضرًا.
لقد جعل الله هذه المدينة المباركة (مكة المكرمة) مهوى الأفئدة، يفدُ إليها فيمن يفدُ العلماءُ والفقهاءُ والكبراءُ والخبراءُ والمخترعون، وكل هؤلاء ينبغي أن يكون لبلادنا الحبيبة المملكة العربية السعودية نصيبٌ وافر من علمهم وفضلهم.
لا يزال في الذاكرة عندما زرته في مسكنه بمكة جملته التي قالها لي الدكتور “أوجانج” قال لي وقتها: إن كبار العلماء في الدنيا يأتون إلى مكة المكرمة إما للحج أو العمرة أو الزيارة، فقط يطوفون ويسعون ويقرؤون القرآن الكريم ثم ينامون!! لماذا لا تستفيدون من علمهم وإنتاجهم المعرفي؟
وقد صدق، فالقرآن الكريم حين تحدث عن فريضة الحج والحجيج قال:
(لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ) (الحج: 28)، فجعل الله سبحانه وتعالى (المنفعة) بكل أبعادها مقصدًا من مقاصد الركن الخامس من أركان الإسلام وهو الحج لبيته الحرام، بل وقدمها في الذكرِ عن الذكرِ.
وفي موقع آخر يقول الله -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) (البقرة: 198)، وقد قال التابعي الإمام الفقيه “مجاهد بن جبر التغلبي” أحد تلامذة “عبد الله بن عباس بن عبد المطلب” -رضي الله عنهما-: هي التجارة في موسم الحج، فإذا كانتِ التجارةُ من منافع الحجّ المشروعة، فكيف بالعلم النافع والتعليم؟
0