أكرمني الله بصحبة طبيب فاضل أثناء رحلتي من القاهرة إلى لندن. تعرفنا وتبادلنا أطراف الحديث، وأثناء الحديث قال لي هناك بعض الأحكام الشرعية التي يصعب على عقلي قبولها وفهمها وأخشى مناقشتها أو إثارتها. فقلت له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشجع على السؤال والمناقشة والقرآن في غير آية، يدعونا إلى التدبر والتفكر والبحث عن الحكمة، وفي السنة النبوية أحاديث كثيرة تُخبرنا عن مناقشة الصحابة للرسول عليه الصلاة والسلام، وما نحن عن قصة المجادلة ببعيد: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير) (المجادلة:1).
قال لي رفيق الرحلة، لا اعتراض على حكم الله، وأنا مؤمن بالله وما أنزله الله، ولكني أجد صعوبة في فهم أن المرأة ترث نصف الرجل. لماذا ذلك؟ فقلت له المرأة لا ترث نصف الرجل في كل الأحوال. قال كيف؟ فقلت لصاحبي في هذه الرحلة التي دامت 5 ساعات أن الإسلام أعلى شأن المرأة وعظّم مكانتها، تأمّل قول الحق سبحانه «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ» (البقرة: 228)، وقوله جل جلاله «لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ» (النساء: 32). فميراث المرأة على النصف من الرجل ليس موقفًا عامًّا ولا قاعدة مطردة في توريث الإسلام لكل الذكور وكل الإناث؛ فالقرآن لم يقل: يوصيكم الله في المواريث والوارثين للذكر مثل حظ الأنثيين، وإنما قال «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» (النساء: 11)، أي إن هذا التمييز ليس قاعدة مطردة في كل حالات الميراث وإنما في حالات محدودة من حالات الإرث. والتمايز في الأنصبة بالنسبة للوارثين لا يرجع إلى معيار الذكورة أو الأنوثة، وإنما هي مقاصد وحِكَمٌ إلهية تحكمها معايير ثلاثة:
أولها: درجة القرابة بين الوارث – ذكرًا أو أنثى – وبين الموَرِّث – المتوفَّى- فكلما اقتربت الصلة زاد النصيب في الميراث، وكلما ابتعدت الصلة قلّ النصيب في الميراث دونما اعتبار لجنس الوارثين.
ثانيهما: موقع الجيل الوارث من التتابع الزمني للأجيال؛ فالأجيال التي تستقبل الحياة وتستعد لتحَمُّل أعبائها عادة يكون نصيبها في الميراث أكبر من نصيب الأجيال التي تستدبر الحياة وتتخفف من أعبائها بل قد تصبح أعباؤها- عادةً -مفروضة على غيرها وذلك بصرف النظر عن الذكورة والأنوثة للوارثين والوارثات؛ فَبِنْتُ المتوفَّى ترث أكثر من أمِّه – وكلتاهما أنثى- بل وترث بنت المتوفَّى أكثر من أبيه حتى ولو كانت رضيعة لم تدرك شكل أبيها، وحتى ولو كان الأب هو مصدر ثروة الابن، والتي تنفرد البنت بنصفها، وكذلك يرث الابن أكثر من الأب وكلاهما من الذكور.
وثالثها: العبء المالي الذي توجبه الشريعة الإسلامية على الوارث، وتأمره أن يقوم به تجاه الآخرين وهذا هو المعيار الذي يُبين لنا أن الذكر مُكلَّف بإعالة أنثى – هي زوجته- مع أولادهما، بينما الأنثى الوارثة –أخت الذكر- يعولها رجلٌ آخر هي وأولادها، فهي مع هذا التقسيم الذي يراه البعض نقصًا لحقِّها بالنسبة لأخيها الذي ورث ضعف ميراثها، أكثر حظًّا وامتيازًا منه في الميراث؛ فميراثها مع إعفائها من الإنفاق الواجب على زوجها – هو ذمة مالية خالصة ومُدَّخرة لجبر ضعفها وتأمين حياتها، وتلك حكمة إلهية بالغة.
وإن القارئ لعلم الفرائض (المواريث) بعين المتدبر البصير، يكشف عن حقيقة تُذهِلُ الكثيرين كما قرره علماؤنا:
1) إن هناك أربع حالات فقط ترث فيها المرأة نصف الرجل.
2) وهناك حالات أضعاف هذه الحالات الأربع ترث فيها المرأة تمامًا مثل الرجل.
3) وهناك حالات عشر أو تزيد ترث فيها المرأة أكثر من الرجل.
4) وهناك حالات ترث فيها المرأة، ولا يرث نظيرها من الرجال.
أي: إن هناك أكثر من ثلاثين حالة تأخذ فيها المرأة مثل الرجل أو أكثر منه، أو ترث هي ولا يرث نظيرها من الرجال، في مقابل أربع حالات محددة ترث فيها المرأة نصف الرجل. من خلال تلك المعايير السابقة التي تحكم من خلالها الشريعة الإسلامية مسألة الميراث نجد أنها لم تقف عند معيار الذكورة أو الأنوثة كما يظن الكثيرون من الذين لا يتدبرون القرآن.
وقد طال الحديث وتطرقنا إلى أمثلة ونماذج لا يتسع المقال في صحيفتنا المباركة لذكرها.
0