ثقافة الاستهلاك (١)
تمتزج عدد من الفنون في قولبة النظريات العلمية وتطبيقاتها، لتخدم منحى فكريًا وعمليًا محددًا، وبتضافر تلك العوامل وتسديدها ينتج عنها رأي سديد أو مقارب، وترتقي تلك الأفكار إلى أسمى المهام الحضارية الكبرى في حياة الدول والأمم الناهضة، ويُعد علم الاقتصاد السياسي والاجتماعي أحد المناهل العلمية ذات الأبعاد المزدوجة والمتعددة التي تستقي منهما الأمم الناهضة أطروحاتها التطبيقية والعملية، وبعد تاريخ طويل من صراع الطبقات والتحولات الفكرية والسياسية الهائلة التي رصدها التاريخ البشري المدون والمحايد، انتهى أخيرًا إلى الخروج بنظريتين ذات أبعاد تطبيقية ومنهجية متعددة وهما: (الرأسمالية، والاشتراكية) ودار بينهما صراع مرير فيما يُسمى (بالحرب الباردة) وكسبت الجولة فيها الرأسمالية وجمحت (بقواها الناعمة) على النظرية الاشتراكية، ممثلة في الاقتصاد الحر، وأفلام هوليود، وعروض الأزياء، وأغاني وموسيقى البوب.. إلخ على شعوب (الاتحاد السوفيتي سابقًا وما يدور في فلكه) من الشعوب والدول المحرومة التي ضربت عليها النظرية الماركسية الفاشلة بجرانها المشؤوم بمقولة: (كل على حسب قدرته، إلى كل على حسب حاجته) بينما يعيش أعضاء اللجنة المركزية للأحزاب الشيوعية في ترف عارم، وثراء فاحش، لا نظير له في حياة أثرياء الرأسمالية)، وحاول الرئيس الروسي (ميخائيل جوربتشوف) عبثًا ودون جدوى أن يقوم بدور المخلص لمأزق الشيوعية واشتراكيتها التي انحدرت إلى الحضيض ولات حين مناص، محاولًا بإصلاحاته المشهورة (البيسترويكا) إنقاذ الاقتصاد الروسي المؤدلج بالنظرية الماركسية ، فكانت إصلاحاته بمثابة (القشة التي قصمت ظهر البعير) وانحل على إثرها (الاتحاد السوفيتي وما دار في فلكه من الدول الشيوعية السابقة)، وانفصلت عدد من الجمهوريات الإسلامية وتفرط عقد الحزب الشيوعي الحاكم في سائر دوله عدا الصين وكوريا الشمالية التي لجأتا إلى الحماية البوليسية البشعة، وأدخلت الصين بعض التعديلات والإصلاحات الاقتصادية، ونجحت بفك بعض الآثار بذكاء بارع وازدهرت فعلًا بما لا نظير له، بينما بقيت كوريا الشمالية في محبس الحياة البوليسية الصارمة مقرونة بالفقر المُدقع للشعب الكوري الذي لم يشبع حتى الآن من (الأرز)، وانتهى حلف (وارسو) إلى شذر مذرٍ، وانضمت كثير من دوله إلى حلف الأطلسي (النيتو)، وتسيدت الرأسمالية الإمبريالية الجشعة المشهد العالمي بلا منازع، واتسعت الشقة على الراقع بين عالم الشمال الغني، وعالم الجنوب الفقير في ضوء الرأسمالية المسيطرة المتجبرة، وتجذر الاستعمار الجديد المؤطر بمؤسسات اقتصادية كبرى مثل: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، واتفاقيات القات، والشركات العابرة للقارات.. إلخ ليتحكم هذا البعبع الشرس في اقتصاديات العالم ومصيره بلارحمة، ولا سيما في العالم النامي والثالث اللذَيِن غرقا إلى أذنيهما في ثقافة الاستهلاك مشفوعًا بالديون الباهظة التي وصلت إلى أرقام فلكية، وتعلق اقتصاد تلك الدول بقشور الرأسمالية الباهتة وذهلت عن لبابها، وشغفت شعوبها بأفلام هوليود، ومسابقات الرياضة العالمية بأنواعها، واقتناء أفخر العطور والأزياء الباريسية، والتعلق بالأفلام الإباحية والعصابات، والأغاني والرقص الفاضح، وانتشار الكباريهات، والنوادي الليلية مشفوعة بالمخدرات، والفارق بين القبيلين أنها في الغرب الرأسمالي جزء من الإنتاج المادي وتكديس الثروة الحرام والغزو الاستعماري وأجندته، وعلى سبيل المثال فإن المواقع الإباحية تدر على الغرب الرأسمالي مليارات الدولارات سنويًا، وعلى النقيض من ذلك الدول النامية والفقيرة، فقد التهم الاستهلاك الاقتصادي مقدرات الشعوب والدول النامية والفقيرة، وصدفت عن هموم البناء والإنتاج والنهضة، إلى عالم مُفعم بالاستهلاك المزمن.
واستطاع الغرب الرأسمالي إغراق العالم النامي والفقير بمنتجاته التحسينية فضلًا عن الضرورية والحاجية، وعلى جوانبه نشأت مظاهر الاستعمار الجديد المتمثلة، في أنظمة ولوائح صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، واتفاقية القات، وشروطهم الاستعمارية الاقتصادية المرهقة، وأصبحت منظمات الأمم المتحدة باختلاف مؤسساتها ومنظماتها أدوات مساعدة لتنفيذ رؤى الرأسماليين الكبار (سمك القرش البشري) ورغم أن العالم النامي والفقير يضم في أراضيه الثروات الطبيعية بأنواعها، والمناخ الجيد، والمواقع الإستراتيجية، والأيدي العاملة الرخيصة، إلا أنه لم يرفع بها رأسًا بقدر ما وقع في آتون الديون الباهظة، وحقوق الماركات المسجلة، في حلقة مفرغة مفعمة بثقافة الاستهلاك رؤية وتطبيقًا وفكرًا وإعلامًا، بما لا ينطفئ أواره، ولا تخبو ناره، وثمة قواسم مشتركة بين العالم الثالث والنامي، وأخرى أحادية الجانب، ساقت إلى الإغراق في هذا الانحدار الاستهلاكي المشين.
ومن أبرز القواسم المشتركة:
١- ثقافة الإعلان الذي طغت بصور مختلفة، سواء كانت مصورة أو مطبوعة، وتغللت عبر أدوات التواصل الاجتماعي المختلفة في العالم النامي والفقير، وتفطنت لها الشركات الرأسمالية بالتواصل عن طريق نقاط البيع المختلفة، التي تصل إلى المستهلك عبر البريد بكل يسر وسهولة، وظهر الإعلان التجاري بألوان وصور مختلفة، حتى أصبح (السماسرة والدلالون) من نجوم المجتمع، وحظوا بمداخيل مادية كبيرة، بما لا مقارنة فيه بينهم وبين مداخيل العلماء والقضاة والأطباء والمهندسين وأصحاب الحرف المهنية المنتجة، وفي النفس علالة، مما في نفس يعقوب، بانسياق بعض الفضلاء وراء الإعلان التجاري، وتذكرت قول الشاعر حين قال:
ولو أن أهل العلمِ صانوه صانَهُم
ولو عَظَّمُوه في النفوسِ لَعُظِّما
ولكن أهانوه فهانو ودَنَّسُوا
مُحَيَّاه بالأطماعِ حتى تَجهَّما
٢-الاهتمام البالغ باستحواذ الأرباح العاجلة مثل: التركيز على الجوانب الاستهلاكية في المطاعم، والكماليات ، وبانتشار أفقي واسع، وعلى هامشه، ظهرت بصور مذهلة الفنادق والمنتجعات المترفة في العالم النامي والفقير إمعانًا في التقلب في آتون ثقافة الاستهلاك، ومن أهم العوامل الرئيسية التي طورها الرأسماليون:
١- تسلط الشركات العابرة للقارات على المنتجات الوطنية في الدول النامية والفقيرة، وفق لوائح وأنظمة أحتكارية ظالمة، في ظل الاستسلام للقوى المادية الرأسمالية.
٢- شروط صندوق النقد الدولي، والبنوك الربوية الرأسمالية التي ورطت الدول النامية والفقيرة تحت طائلة الديون المرهقة التي عجزت عن سدادها، واضطر بعضها إلى جدولة ديونها بشروط مذلة ومرهقة، فازدادت عجزًا وفقرًا على فقرها وعجزها.
٣- إثارة الحروب بين الدول النامية والفقيرة، والانقلابات العسكرية، والخلافات السياسية والفكرية والثقافية والإعلامية، والصراع على الهوية في الدولة الواحدة، بعيدًا عن روح البناء والتطور والنهضة..
فهذه العوامل وغيرها، دجنت الأثرياء في العالم النامي والفقير على الكسب السريع، وبناء مشاريع استهلاكية عجولة، وطفق الرأسماليون الغربيون يستثمرون بدورهم المليارات الضخمة في مشاريع استهلاكية وترفيهية في الدول النامية والفقيرة، وبناء جامعات بمناهج مدجنة، لا تنتج عقليات مستقلة، وأفكارًا إبداعية حضارية بقدر ما ترسخ التبعية ومحو الهوية الوطنية الحضارية المستقلة، وأما الطبقة المتوسطة في العالم النامي والفقير، فغدت وقودًا مشتعلًا وحطبًا جزلًا لهذه الثقافة الهزيلة والمتردية، مما عمّق ثقافة الاستهلاك، وقامت على هامشها جميع مظاهر التراجع الحضاري والأخذ بالقشور وللحديث بقية ….