المقالات

الأمن الغذائي العربي في خطر

يواجه العالم اليوم تقلبات جيوسياسية كبيرة في كافة المناطق المؤثرة والحساسة على إنتاج وتصنيع ونقل الغذاء، لقد باتت المعضلة اليوم تتفاقم بسرعة رهيبة، تُنبئ بحدث قادم، قد يجتث الكثير من طريقه، في ظل تلك التغيرات التي تُهدد الأمن الغذائي عالميًا بشكل مُخيف، مما يُنذر البشرية بفواجع قد لا نتوقعها حاليًا ولا يتصورها عقلنا الراهن، فعند غياب الغذاء تغيب كل القيم والقوانين والأعراف والأخلاق.
ما هو الأمن الغذائي؟
هناك الكثير من التعريفات المنتشرة والمختلفة في سرد المصطلحات، ولكن سنذكر ما قالته مُنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) “بأنه مقدرة الشعوب على توفير الغذاء لجميع أفرادها بالكمية والنوعية التي تفي باحتياجاتهم الغذائية، بصورة مُنتظمة ومُستمرة، من أجل حياة نشطة وصحية ومُتزنة”، والذي يأتي مُنسجمًا ومتوافقًا في سُبل تحقيق الاكتفاء الذاتي المستمر، والذي يُلبي الاحتياجات الغذائية، مع زيادة الإنتاجية، وسدّ الفجوات الغذائية. يرتكز الأمن الغذائي على مدى توفير الغذاء ويطلق عليه بالوفرة، ثم الاستقرار وكيفية الاستخدام وإمكانية النفاذ، ولكل ركيزة من تلك لها دعائم تُبنى عليها السياسات والتوقعات والدراسات الغذائية، إلا أن هناك مُعضلات تؤثر على تحقيق ذلك ويتمثل بتناقص المساحة المزروعة، وقلة وتدهور الموارد المائية، والتغيرات المناخية، من الاحتباس الحراري والجفاف والتملح وغيرها، كذلك الفجوة التكنولوجية خاصة في المنطقة العربية، واختلاف الأنماط الغذائية، وانخفاض مستوى البنية الأساسية والخدمات الزراعية، وكذلك تدني حجم الاستثمار في القطاع الزراعي والحيواني، كل تلك العوامل كانت وستظل مُؤثرة في تدني مستوى الإنتاج الزراعي بكافة محاوره، مما زاد من العجز الغذائي.
حيث يشهد العالم عمومًا، والعربي خصوصًا، تغيرات عديدة في وضع واستقرار الدول العربية من العراق والصومال وسوريا والسودان واليمن وليبيا والقائمة تطول، خاصةً بعد الربيع المزعوم، الذي أصبح شتاءً مذمومًا، وأصبحت الانقسامات المتضاربة التي يشهدها عالمنا العربي اليوم تُفاقم من المشكلات الأمنية والغذائية وكافة مناحي الحياة، مما دفعت بمزيد من الاضطرابات والتوترات، والتي توزعت بين مُستفيد محلي جاهل مُستقطب ومدعوم من أباطرة العالم اليوم، الأقطاب العالمية الـمُتعددة القديمة والـمُستحدثة، خصوصًا في هذه المرحلة الزمنية الانتقالية، إننا على موعد بأن نقول: إن العالم أصبح مُتعدد الأقطاب، ومازال الصراع والاستحواذ والتقاسم بين تلك الأقطاب لـمقدرات الشعوب عمومًا والعربية خصوصًا قائمًا بل ويتفاقم، وأصبحت المخاطر الجيوسياسية جراء ذلك مُسيطرة على المواقف والقرارات والضربات واستمرار الأزمات، وإن اختلفت الـمُسميات الناعمة والقاسية؛ وخاصة بعد تبعات جائحة كورونا المزعومة، واستمرار الأحداث المتسارعة اليوم.
اتجهت – قسرًا – مُعظم الشعوب العربية للأسف من البناء والزراعة والتنمية وإنتاج الغذاء والصناعة، إلى الاقتتال والصراع والهجرة واللجوء والنزوح والموت جوعًا وخوفًا وهربًا، وهذا أثَّر على سلاسل إنتاج الغذاء، وما زاد الطين بلة ارتفاع أسعار المدخلات الزراعية من الوقود والبذور والأسمدة والمبيدات والآلات والمعدات وغيرها، قد أثر على الغذاء وتضخمت أسعاره بشكل جنوني، مُقارنة بالفترة الماضية، وفي ظل محدودية الدخل، بل وانعدامه في كثير من المناطق، ومع استمرار الأحداث الدامية، أصبح الأمن الغذائي العربي في خطر حقيقي.
يستورد العالم العربي ما يفوق 61% تقريبًا من غذائه الأساسي من الخارج، ومع استمرار الصراع في أوكرانيا وروسيا الذي أثر بشكل كبير على إنتاج الغذاء خاصة الحبوب، واستمرار التنافس الأمريكي الصيني، لوأد طريق الحرير المزمع تدشينه، خلق الكثير من الصراعات على ذلك الطريق، ووصولًا للإجرام الصهيوني في فلسطين، وتداعيات أزمة البحر الأحمر الدرامية، والذي سيؤثر بالطبع على أسعار الوقود عالميًا، وهو أكسير الإنتاج الصناعي والزراعي والتكنولوجي عمومًا، كذلك ستؤثر أزمة البحر الأحمر في تأخير وتعطيل وصول المواد الغذائية وحركة سيرها، مما قد يزيد من تكاليف النقل، ولن يقتصر التأثير على الدول الـمُطلة على البحر الأحمر بل معظم دول العالم القديم، مما قد يؤثر على وصول الإمدادات الإنسانية لمناطق الصراع، والمناطق الـمُتضررة عمومًا، مما قد يؤدي إلى نقص الغذاء وانعدام الأمن الغذائي، وعلى زيادة تكاليف نظم التوصيل والنقل والتأمين العالمية.
تُشير التقارير المحلية والإقليمية والدولية حول الأمن الغذائي في المنطقة العربية أن ما يزيد عن 55.3 مليون عربي يُعانون من انعدام الأمن الغذائي، هذه التقارير رغم تفاوتها، كانت مع مطلع العام 2022، وبالمقارنة بما مضى من الفترة السابقة، فلقد زاد ما نسبته 54.8%، عما كان عليه في نهاية عام 2011، أي أن هناك إضافة سنوية تُقدر بخمسة ملايين عربي تقريبًا يفتقدون للغذاء الآمن، في حين ذكرت منظمة الفاو أن سنة 2023 هي الأسوأ على الإطلاق على الأمن الغذائي في المنطقة العربية وأن أكثر الدول تضررًا كانت سوريا واليمن وغزة. في حين ذكر صندوق النقد العربي أن مساهمة القطاع الزراعي من إجمالي الناتج المحلي توقف عند 4.98%، كما أن نصيب الفرد في الوطن العربي في العام 2022 من الناتج الزراعي أيضًا انخفض عما كان عليه في 2010، بنسبة وصلت إلى 31.5%، مما يعني اتساع الفجوة الغذائية، وزيادة حجم الاستيراد خاصةً للسلع الغذائية الأساسية. المنطقة العربية تُصنف من أشد المناطق في العالم مُعاناة، والتي تتفاقم في كافة مناحي الحياة الأمنية والغذائية ومن ثّمَّ الاجتماعية.
يجب أن نعترف أن هناك تحديات جديدة ومُتجددة يومًا بعد يوم، أضعفت القدرات في معظم المناطق العربية، وفي إيجاد حلول ناجعة، للحدِّ من تدهورِ الأمن الغذائي واتساع الفجوة الغذائية، خاصةً مع ما ذكر سابقًا، مقارنة بالعقد الماضي؛ بالإضافة إلى استمرار النزاع في السودان واليمن وسوريا والعراق وهي دول زراعية، نستطيع القول: إن استمرار الصراعات في تلك الدول قد دمّر القدرة لدى المزارعين على إنتاج الغذاء وقوض سُبل العيش والأمن ولم يعد باستطاعتهم تحمل التكاليف الغذائية الباهظة، في ظل طاقات وإمكانيات حكومية محدودة وضعيفة في دعم وتوفير سبل العيش للسكان عمومًا، وكذلك الحرب المؤلمة في غزة وتداعياتها الإقليمية والعالمية، والأحداث الجارية في البحر الأحمر، وربما البحران العربي والأوسط عمَّا قريب، وكذلك بحر الصين أيضًا، كل ذلك سيؤدي إلى مزيد من الاضطرابات العالمية، والتي قد تُنبئ بحربٍ عالمية ثالثة.
ولقد أثبتت ذلك من التجارب والخبرات والأزمات العالمية السابقة والجارية اليوم، والتي أظهرت بما لا يدع مجالًا للشك أن النقود ليست بديلًا أو سبيلًا لتوفير الغذاء، فإنتاج الغذاء ليست عملية مُكتملة، إن لم يصل للمستهدفين حول العالم، وعلى النقيض من ذلك يفتقر الكثير من شعوب العالم العربي اليوم للغذاء؛ خاصة في مناطق الصراع، مما يؤثر على التركيب الاجتماعي والمستوى التعليمي والإنتاجي والتطور والتنمية عمومًا.
وخلاصة القول يجب على الدول العربية التكامل فيما بينها، فلقد وهبنا الله تعالى، مُقدرات متنوعة من الموارد الزراعية كالأراضي الخصبة والمياه الجارية والقوى البشرية بالإضافة لرأس المال، الذي قد يُسهل من الحصول على التكنولوجيا، لقد توزعت تلك المقومات والمميزات على أقطار عربية مُتعددة، لكل دولة مميزات قد تختلف عن غيرها، لكن الاحتلال والاستعمار فرق بينها للوصول إلى هذه الحالة اليوم من النكسات المتلاحقة، ومن خلال التكامل الزراعي والحيواني والاقتصادي العربي الحقيقي يمكن لدول المنطقة أن تحقق الاكتفاء الذاتي، بل ولربما قد تُصبح مُتربعة على قائمة الدول المنتجة والمصدرة في آن واحد للغذاء.
إن ما ينقصنا في الوطن العربي إدارة مُتزنة ومتوازنة مؤمنة بأهمية القطاع الزراعي والحيواني، تسعى للتكامل والانسجام ووأد الخصومات والنزاعات البينية، وقيادة تُؤمن بمكانتها وهدفها ورسالتها السامية، ورؤيتها الطموحة، وحقيقة بقائها، وختامًا يجب القول: إن التكامل الزراعي العربي أصبح مَطلبًا جماهيرًا عربيًا مُلحًا من خلال التخطيط الزراعي والحيواني الإستراتيجي وفقًا للمزايا النسبية بين دول المنطقة، في إقامة المشاريع الإستراتيجية الزراعية والحيوانية الشاملة، وفي إطار تحقيق منطقة التجارة العربية البينية الحُرة، حينها نستطيع القول: إننا في طريق تحقيق الأمن الغذائي العربي المنشود.

– باحث في كلية علوم الأغذية والزراعة – جامعة الملك سعود

فيصل بن أحمد الشميري

طالب دكتوراة – كلية علوم الأغذية والزراعة في جامعة الملك سعود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى