في العام ١٩٩٧ للميلاد كنت على موعد مع رحلة الابتعاث لبريطانيا، كانت المشاعر مختلطة، من فرح وحزن، خوف وأمل، يأس وفأل. وكانت وسائل التواصل في ذلك الزمان محدودة بالجوال مع تكلفته أو الإيميل، وكانت الغُربة في ذلك الزمان موحشة لدرجة شديدة، فاللغة ضعيفة، والسفر كنت فيه وحيدًا، ولا تعلم كيف سيكون حالك، وكان المثبطون لا يزالون يحدثونك أن لا حاجة بك إلى الغربة، وكان التردد قائمًا، وحديث النفس مستمرًا، حتى استخرت ربي وعزمت أمري وسافرت. نزلت بمطار هيثرو وقيض الله لي شابًا كثير الأسفار لسانه “بلبل” بالإنجليزية؛ فساعدني حتى أخذت حقائبي وركبت تاكسي متجهًا للملحقية الثقافية بلندن، ولا حاجة بك أن تتفق مع صاحب سيارة الأجرة على أجرة النقل ولا أن تُجادله أو تكاسره، بل هناك عداد هو المعمول به في الحساب. وصلت للملحقية الثقافية وسجلت لديهم وقابلت مشرفها الأستاذ/ عبدالله الناصر ذلك الرجل العظيم خُلقًا وتواضعًا وتحفيزًا، كان أبًا للجميع، ناصحًا ومرشدًا وموجهًا، وكان بابه مفتوحًا للطلاب لا يحجب عنه أحد، ويُقابلك بابتسامة تزيل عنك عناء السفر، ووحشة الغربة، ومع أن اللقاء به كان لوقت قصير إلا أن الله محا بتعامله اللطيف الغُربة الموحشة، وبكلماته العناء، وشعرت بأن هناك سندًا لنا وعونًا، وهكذا هم رجال الدولة “الأكفاء العاملون” بتوجيهات الدولة بتيسير وتذليل الصعاب للمواطنين خارج السعودية، ونادرًا ما تجد مسؤولًا سعوديًا في الغربة قليل الفزعة قليل النجدة قليل الابتسامة والفزعة، فجزى الله الأستاذ/ عبدالله الناصر كل خير فرغم تركه للعمل ببريطانيا منذ أكثر من ٣٠ سنة لكننا جميعًا ممن عاصرناه مازلنا نذكره بكل خير، وندعو له ونثني عليه بما هو أهله، وهكذا هو حال المسؤول الموفق، يترك أثرًا حسنًا في نفوس من يتعاملون معه ومن هم بحاجته.
انطلقت بعدها لكامبريدج؛ حيث سجلت في مدرسة “بيل سكول” وكانت من أفضل مدارس اللغات آنذاك وأغلاها في رسوم الدراسة، فكنت محظوظًا بالدراسة فيها لعشرة أشهر في مدينة كامبريدج التي بها أفضل جامعة بعد أكسفورد، ويقل فيها العرب، وهذا كان مفيدًا في اكتساب اللغة بسرعة، بخلاف المدن التي يكثر فيها المبتعثون فتجد اكتسابهم للغة بطيئًا جدًّا بل قد يمضي على بعضهم عام كامل ومستواه في اللغة مازال متدنيًا، لكثرة اجتماعاته بالعرب خاصة على الكبسة التي مللناها في ديرتنا واشتقنا لها في غُربتنا.
وفي مرحلة اللغة يتفاوت الطلاب المبتعثون في تحصيلهم لها بمقدار اجتهادهم وخلطتهم بالإنجليز وكثرة التحدث معهم، فمنهم من انطلق لسانه لكثرة تحدثه مع الإنجليز لكن قراءته للغة وكتابته كانت ضعيفة، ومنهم من اعتزل وعكف على القراءة والاستماع ولم يختلط؛ فكان جيدًا في القراءة والاستماع ضعيفًا في التحدث والتواصل.
كان الإنجليز في تعاملهم لطفاء لم أصطدم بعنصرية بعضهم المقيتة؛ لأن من نتعامل معهم غالبًا راقين متعلمين يعرفون قدر الأجنبي، وكيف أنه مصدر دخل لبلادهم.
حاولت بعد ستة أشهر أن أبدأ الماجستير لكن المشرف وجه بأن أواصل اللغة لأربعة أشهر أخرى، والنصيحة للطلاب المبتعثين أن لا يستعجلوا باللغة بل يأخذوا وقتًا كافيًا لتعلمها بشرط أن لا يكون التطويل لها بسبب تقصير وإهمال مما يُكلف الدولة أموالًا طائلة، بل وإن طالت المدة فينبغي الاجتهاد في تعلم اللغة تحدثًا واستماعًا وكتابة، وسيعلم المبتعث أهمية سنة اللغة عندما يبدأ بدراسة الماجستير، فكثير ممن استعجل أو قصر اصطدم باللغة من جديد عندما بدأ يقرأ في الأبحاث، وود كثير منهم لو عاد به الزمان ليعاود دراسة اللغة من جديد؛ لذلك ننصح كل مُبتعث أن يهتم بتلك السنة أو السنتين للغة؛ لأن ما بعدها يُبنى عليها.
وينبغي على المبتعثين أن يهتموا بدراسة اللغة قبل سفرهم؛ فيدخلوا دورات مكثفة، ويطوروا مهاراتهم اللغوية قبل سفرهم؛ فذلك سيجعل فترة اللغة من أجمل الفترات وتكون مدتها قصيرة لا تزيد عن سنة.
للحديث بقية إن شاء الله…