المقالات

حياة في الجامعة والابتعاث دروس وعبر (3)

حياة في الجامعة والابتعاث دروس وعبر (3)
هل أديسون اخترع المصباح أم زوجته؟
في صيف عام 1998م أنهيت سنة اللغة، والتي عشتها بكامبردج بمدرسة بيل سكول للغة ببريطانيا وحيدًا بلا أهل؛ فكانت الغربة قاسية موحشة إلى حد ذرف الدموع، ولم يكن هناك وسائل التواصل الحديثة كما هو الحال اليوم، والتي قربت البعيد، وأسكنت وحشة المبتعثين، وسهّلت لهم الوصول للمعلومة في زمن يسير وبأقل كلفة، وكان الاشتغال باللغة وتطويرها والجلوس لساعات طويلة في المكتبة بعد الحصص الدراسية مخففًا لألم الغربة ولوعة الشوق للديار والأهل والأصحاب، وإن أعظم ما ننصح به الطلاب المبتعثين الذين يُخالجهم هذا الشعور- أعني الغربة – إشغال النفس بالعلم والبحث وتطوير اللغة الاختلاط بأهل تلك الديار، وتكوين صداقات تنمي لغتهم، ولقد وجدت في البعثة أن المقصر في بحثه والمقصر في خلطته المعتزل للناس ضعيف في تحصيله، اللغوي، ضعيف في مواجهة مشكلات الدراسة، كثيرًا ما تحدثه نفسه بقطع البعثة والرجوع لبلاده، ولقد شاهدت طلابًا نكصوا على أعقابهم وما تحملوا الغربة، وما صمدوا أمام مشكلة اللغة، وتحديات البحث العلمي، ولم يواصلوا الدراسة فعادوا لجامعاتهم وبقوا فيها سنين طويلة حتى عادوا للبعثة مرة أخرى وقد ابيضت لحاهم، وبعضهم ظل معيدًا حتى تقاعد، وبعضهم طلب الابتعاث الداخلي مع تيسيره للبعض في أزمنة معينة بمبررات مقبولة، ومنعه لآخرين الذين لا مبررات لهم تمنعهم من الابتعاث سوى الحاجز النفسي وفوبيا الغربة واللغة واختلاف الثقافات التي صارعوا من أجل تقبلها أو التعايش معها فما استطاعوا. إن فرصة الابتعاث فرصة ثمينة تتكلف فيها الدولة -رعاها الله- أموالًا طائلة وتستثمرها في الإنسان، وبفواتها – أعني فرصة الابتعاث – تفوت منافع كثيرة على المبتعث، وقد لا تتكرر له الفرصة.
وتظل اللغة هي العقبة الكؤود لدى كثير من المبتعثين والتي يمكن التغلب عليها بالاختلاط بالناطقين بها وكثرة القراءة والاستماع والصبر على المعوقات؛ فاللغة تحتاج إلى زمن طويل للانطلاق فيها، ولقد وجدت طلابًا يدرسون بالداخل أقوى لغة ممن درسوا بالخارج بسبب حرصهم الشديد والدائم على تطوير لغتهم استماعًا وتحدثًا وكتابة، ولم يقف تطوير لغتهم فقط عند سنة اللغة كما حصل لبعض المبتعثين فتوقفت حصيلتهم اللغوية بتوقفهم عن تطوير لغتهم، فاللغة تقوى بالتطوير والممارسة، وتموت بغير ذلك، ولذلك تجد بعضًا ممن انغمس بالعملية البحثية في بعثته خاصة التجريبية لغته ضعيفة حتى بعد عودته من البعثة، ومع ذلك لا يزال أمام هؤلاء فرصة لتطوير لغتهم طالما كانت مهنتهم هي العلم ونشره، وحاجتهم اليوم للغة في تدريسهم وأبحاثهم أشد من أي وقت مضى، فاللغة المعتمدة اليوم في التدريس في الجامعات للتخصصات العلمية هي اللغة الإنجليزية.

نعود لما بدأنا به، عدتُ بعد سنة اللغة للسعودية في أغسطس من العام 1998م في أجازة، وحملت زوجتي وأطفالي الثلاثة إلى مدينة كاردف الجميلة عاصمة ويلز، وكان وجود الأهل مخففًا للغربة معينًا على البحث بما توفره الزوجة من الراحة لزوجها وتشاركه همومه وربما ثبتته ونصحته؛ فكان لتثبيتها ونصحها أثرًا عظيمًا على زوجها تحصيلًا وإنجازًا، وهكذا هي المرأة الصالحة تُعين زوجها في كل حالاته وتصبر على تقصيره بسبب دراسته وتعتني بأولاده، وكان للنساء بالسيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم القدوة فقد كانت نعم المعين لزوجها لما تحمل أعباء الرسالة فواسته وثبتته وأعانته وقالت في أعظم تثبيت له: “أبشر يا محمد، فوالله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر”.
بهذه الكلمات العظيمة تثبت أم المؤمنين خديجة قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حدثها بشأن الملك الذي نزل عليه بغار حراء؛ حيث قال لها معبرًا عن خشيته: “لقد خشيت على نفسي”.

أبشر يا محمد، ما أجملها من كلمة!
أبشر يا محمد سيندمل الجرح، ويزول الوجع، وستمضي في طريق الحياة بقلبك الخير، وستكون لك العزة في الدارين، فلن يخزيك الله أبدا.

وزوجة المبتعث في بعثته عند خوفه من الفشل تقول له مثبتتة وناصحة:
أبشر يا زوجي فلن يضيع الله لك جهدا.
كم من زوجة مبتعث رأت زوجها يائسًا حزينًا محطمًا من نتائج دراسته وفشله وخوفه من أن لا يأخذ الدكتوراة، فثبتته بكلمة “أبشر” فسيوفقك الله لأنك تحافظ على الصلاة وتكثر الدعاء الذي يغير الله به نظام الكون فالسماء تمطر بالاستغفار والدعاء، وسيعينك الله؛ لأنك مرضٍي عند والديك وتحظى بدعائهما ودعوة الوالد لا ترد، وسيفتح الله عليك لأنك تعاملني بما يرضي، وسيشرح صدرك لأنك تُعين الناس وتواسيهم. وتفرج كربتهم فسيعاملك الله بالمثل، فمن رحم الناس رحمه الله، ومن أعان الناس أعانه الله، ومن أدخل السرور على الناس أدخل الله عليه السرور.
كلمات الزوجة الصالحة بحاجتها كل مبتعث في وقت ضعفه وخوفه من الفشل، فهي تزرع الأمل، وتجدد النشاط، وتزيد اليقين بعون الله وتوفيقه. كم من امرأة لولا الله ثم هي ما تفوق زوجها ونجح وأبدع وأنجز، فبها كان النجاح توفيقه وحليفه.

وقد يكون لكلام الزوجة تغييرا في مسار الباحث، حتى تلك الزوجة الغاضبة بسبب غربتها وتأخر زوجها في بعثته، ويكون ذلك دافعا للمبتعث للتركيز والعمل بجد والتقدم في الإنجاز سريعا.
ولعلي أستشهد بقصة طريفة لزوجة أديسون. كان توماس أديسون مخترع المصباح المولود سنة 1847 والمتوفي سنة 1931م الذي أضاء منازلنا وشوارعنا وطرقاتنا مضرب المثل في الهمة والصبر على البحث والتعلم من الإخفاقات من صغره حتى بعد أن ضعف سمعه جدا، وفي كل مرة يقول: كل تجربة أفشل فيها أتعلم منها شيئًا. فانظر إلى التفاؤل حتى وقت الفشل، هذا الفأل والصبر قاد أديسون إلى 1000 اختراع حتى أضيف اسمه عام 1960 م إلى لائحة المشاهير الأمريكيين في قاعة المشاهير. ورد باختراع المصباح في الموسوعة المنهجية الحديثة تساؤل جاء فيه : “هل أديسون اخترع المصباح أم زوجته؟ ومن المعلوم أن أديسون اخترع المصباح في عام 1878 م بعد تجارب كثيرة أدت به إلى اختراع بصلة المصباح المتوهجة وأضاء في رأس السنة كل الشوارع، فانتشرت في العالم أجمع. بدأ أديسون بتجريب المصباح في منزله، وكانت زوجته أثناء إحدى تجاربه قريبة منه ترعى طفلهما الصغير، فبعد أربع تجارب في كل مرة يضيء المصباح ثم ينفجر في ثوانٍ، وفي المرة الأخيرة قذف أديسون الزجاج برجله غاضبًا فأصابت شظية منه رجل الطفل الصغير، وبدأ يصرخ، فصاحت به زوجته غاضبة وقالت: “رأسك فارغ مثل مصباحك” فتنبه العالم العظيم الى الأمر، وقام بإفراغ المصباح من الهواء ومن ثم أضاءه فاستمر طويلًا….وهكذا كان ينبغي عليه إفراغ المصباح من الهواء، كي لا تنتقل الحرارة بسرعة إلى الزجاج الخارجي ويتحطم”.
وبالرغم من أن قول زوجته لم يكن تثبيتًا بل كان غضبًا، لكنه غضب نفعه وجاء على لسانها كلمة “فارغ” فقادته إلى تفريغ المصباح.

للحديث بقية عن عبر ودروس الابتعاث،،،

أ.د. عمر بن عبدالله الهزازي

أستاذ الكيمياء بجامعة أم القرى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى