المقالات

رائحة الحنان العذب .. أمي وأخوالي وقبيلة “فهم” ..!

ما عانقت أحدًا من أهل أمي إلا وشممت فيه رائحة الحنان، ولا رائحة للحنان إلا في كنف الأمهات، فقد امتد حبي لأمي ليشمل أخوالي، والعرب تقول: إن الخال والد. ولهذا لم أكتف ببر أمي وحدها في شخصها، بل وجدت عذوبة بر الأم في برها في من تحب.

وقد كانت أمي تذكر قبيلتها “فهم” كثيرًا وتعتز بها، وتقول لي ولأخواني ولأخواتي ابحثوا عن مغزى اسم قبيلة “فهم”. وصدقت فنحن نفخر بسجايا أخوالنا، ذلك نلمسه ونشاهده من هؤلاء الرجال الأفذاذ من أخوالي في تلك القبيلة العريقة المتربعة على السهول الساحلية لمنطقة مكة المكرمة.

كانت الوالدة الحبيبة ولازالت تحثنا على التواصل مع من بقي منهم وأسرهم في أفراحهم وأتراحهم. لازال في الذاكرة فرحة الوالدة عندما أُهدىَ إليها صورة ذلك الجبل (وقر) الذي كانت تُصاحب والدها- رحمه الله- في الصعود إلى قمته لجني العسل. كانت الوالدة دائمًا تحدثنا عن مكارم القبيلة (فهم)، كانت تسرد القصص والمواقف التي لازالت في ذاكرتها عن فصاحتهم وذكائكم وكرمهم. لا يزال في الذاكرة وهي تفخر بكلمة كانت ومازالت ترددها أمامنا، تقول: [أنا بنت فهم، اعتزازًا وفخرًا بقبيلتها]، القبيلة التي اشتهرت منذ القدم بالكرم والفصاحة والبلاغة والذكاء وكثرة عدد شعرائها، ولا تزال هذه الصفات الجميلة والكريمة ملازمة لهم إلى يومنا هذا.
وللدلالة، أذكر في هذا المقال، قصة البيت المفقود الذي ورد في كتب الحكايات والأدب العربي. ففي حكاية (جمعان وزوجته وصديقه) التي وردت في الجزء الثالث من أساطير شعبية لعبد الكريم الجهيمان وردت هذه الحكاية.
يقوم البطل (جمعان) برحلتين: الأولى تُهيئ لحدوث المشكلة، والثانية يكون هدفها حل المشكلة ذاتها بالبحث عن (الشطر المفقود) أو الشطر الذي يحوي (سر الأسرار) بحسب عبارة البطل، وتبدأ رحلة جمعان الأولى بعد زواجه مباشرة لقضاء حاجة في بلاد بعيدة، ولا يجد من يستأمنه على زوجته أفضل من صديقه الودود، فيعطيه بعض النقود ويوصيه خيرًا بتلك الزوجة، وفي أحد الأيام يخضع الصديق لإلحاح زوجة جمعان بالدخول وتناول “فنجال قهوة جاهز”، فيدخل إلى بيت صديقه المسافر بنيةٍ حسنة وقصد شريف، ولكن الزوجة الخائنة قصدها غير شريف، وعندما يتأكد له قصدها يحتال عليها ويطلب منها إحضار القهوة لما بعد ذلك، ويستغل الصديق المتورط فترة خروجها، ويكتب على أحد جدران الغرفة البيتين التاليين:
رُب عذرا تزينت فأتتني ودعتني لوصلها فأبيتُ
لم يكُن طبعي العفاف ولكن ويترك الصديق الوفي
مكان الشطر الثاني من البيت الثاني فارغًا ويتسلل هاربًا خارج البيت، ويستمر بعد ذلك في تأدية واجبه تجاه زوجة صديقه بحذر كبير، وعندما يعود جمعان من سفره يلاحظ مصادفة الأبيات التي خطها صديقه على الحائط، وتُحدثه نفسه بأن الشطر المفقود يحوي سرًا خطيرًا، وحينما تُعييه الحيل وتكل قريحته عن إيجاد شطر مناسب تبدأ رحلته الثانية بعرض القصيدة على الشعراء الذين يقفون عاجزين عن إنشاء شطر مُكمِّل للبيتين، ويُخبره أحد الحكماء بأن البيتين لا يقدر على إكمالهما سوى شخص من بني فهم الذين يسكنون في أحد أودية الحجاز، فيرحل جمعان ويحل في مضارب بني فهم ضيفًا على شيخ تبدو عليه أمارات الشهامة والذكاء، ويستدعي الشيخ ابنته الصغرى التي ترعى البهم ويعرض عليها البيتين، فتفكر قليلًا وتؤكد له ولضيفه بأن الشطر المفقود ينبغي أن يكون: كُنت خِلًا لبعلها فاستحيتُ

وعندما تصل الابنة الكبرى التي ترعى الغنم مع غنمها يكون استنباطها للشطر المفقود مطابقًا لاستنباط أختها الصغرى، فيعود جمعان إلى وطنه حاملًا همه وتعبه وحاملًا الشطر المفقود أو (الشفرة) التي تدله على خيانة زوجته.

ومن هذه الحكاية الماتعة استنبطت صفة من صفات والدتي الحبيبة وأخوالي الفهيمين التي عشتها في الواقع، الذين ربما كان اسم القبيلة مأخوذًا من صفة الفهم التي هي من الصفات المحمودة والمطلوبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى