فاز الكاتب ياسين محمود بجائزة يحيى الطاهر عبدالله لعام 2022 عن مجموعته القصصية “فوضى الدم” والتي صدرت عن دار المرايا للثقافة والفنون، وتقع في 111 صفحة، وتبدأ بقصة “بداية” وتنتهي بقصة “نهاية” وبين القصتين 11 قصة أخرى، نجد فيها أن الراوي يظل يحاول الإفلات من قيود ذلك العالم في نغمات اغترابية قريبة، تعكس عن ما يريد أن يعبّر عنه من أحاسيس تجاه ما تعانيه الأجيال، في مواجهة القضايا الإنسانية والاجتماعية، مستعينًا بما تسلّح من أدوات وتقنيات.
وثمّة سؤال مهم يبرز بين طيّات القصص وهو إلى أي مدى يراهن ياسين محمود على تلقي القارىء لهذه المجموعة بالبناء الخاص الذي قدمه في نزعة تنحاز إلى التجريب الكتابي، إذ يؤكد دائمًا ياسين محمود على تمسكه بفعل الكتابة، بقصدية شديدة تبدو واضحة في الموضوع حيث الاغتراب والألم ومعاناة الإنسان في ظل ما يهدده وما يشغل باله، وقد أتى برمز يظل الأهم في تقديم معاني التضحية وهو شخصية المسيح، واستدعى هذا الرمز في مواضع عدة داخل نصوصه.
في قصة “بداية” يقول الكاتب: (ليس لي أن أموت عاريًا، ولا أن أعيش بثياب فضفاضة تعرقل سيري، ولا حتى أن أنزع ساعة قلبي أو أترك أحدًا يزرع فيها قنبلة. مددت صراطًا بين هذا وذاك، علقت الساعة على الحائط بالعكس، أصبح الرقم “ستة” هو الملك، و”اثنا عشر” هو الخادم).
حين تطالع نصوص المجموعة تعتقد أنك أمام الراوي الذي يشعر بالنشوة وهو يتجول في عوالمه الفسيحة رغم كل معاني القسوة ومشاهد الألم والأسئلة المجنونة، مستخدمًا دائرة متكاملة تضم البداية والنهاية، بينما يتعايش في الوسط ليواجه صراعات الفوضى باحثًا عن المنطق، يناجي القلق وتكثر تساؤلاته، ويحيلنا إلى تقاطعات عدة منها ما جاء في قصة “حمامة ونسر”:
(الحمامة في فمها غصن زيتون، هي أيضًا حبيسة، لكن في ملصق إعلاني مكتوب عليه: ادخلوها آمنين.. يحاول ترك القبعة ليصطاد الحمامة التي تنظر إليه بخبث شديد.. تلقي فضلاتها عليه).
تموج المجموعة القصصية بالكثير من مظاهر التجريبية التي اعتاد الكاتب أن يصدرها، مثل الرسومات والجداول والأعمدة الداخلية والحديث عن الجذر التربيعي، تتناثر العلامات كلها في إطار يكشف مرة أخرى عن أن الكاتب مخلص لفعل الكتابة، لا يتعامل معها إلا كما يحب، أو كما يختار هو، على مستوى البناء واللغة والموضوع.
وفي قصة سيمفونية الخضر المزيف نجدها جاءت على طريقة السلم الموسيقي وإن بدا غير مرتب. إن هذا الكاتب يريد أن يعيد تشكيل العالم تارة، وأن يجعل منه وجهة نظره، ورغم أن هذه التجريبية في بعض الأحيان قد تسبب اضطرابًا لدى القارىء إلا أنه يفرض أيضًا عبر قوالبه الخاص نظامًا محددًا في الكتابة، هو يريد أن يتمرد على الطريق، هذا الراوي يتعامل مع الفوضى كمنهج وواقع ونظرة، والمؤلف يشكّل القصص وكأنه رب هذا العالم الخاص، هذا هو طريقه الذي يتحدى به العالم الخارجي، يريد أن يغامر ويقامر ويصنع ويخوض تجربته الخاصة جدًا إزاء هذه القضايا الإنسانية.
يقدم ياسين محمود في قصته “قمرية الأقنعة” مفهومه الخاص بشأن مسلوخي الوجوه: (أقنعة اليوتيوبرز خصوصًا كانت الأعلى مبيعًا، لم نكن نفرق بين صالح أو طالح، الجميع محكوم عليه بالسلخ حيًا ما دام معدل الرفض والسباب مرتفعًا إلى النسب المحددة مسبقًا، بغض النظر عن كون التعليقات الحانقة صادرة من جاهل أو عالم.)
ويمكن الوقوف أيضًا خلال مطالعة نصوص المجموعة على في لعبة المحاكاة التي صاغها ياسين محمود باحترافية، فهذا جزء من رواية وهذا الناشر يرفض الرواية ثم جلسة داخل مكتب الناشر، وكأنه يريد أن يخبر القارىء أنه يتفق مع كون الحياة عبارة عن أصل وصورة، لكن يظل السؤال: هل هذا الأصل أم الصورة؟.
تناص وإسقاطات في البدء، حيث الإهداء، ثم صراع الزمن في البداية، ومرورًا في قصة (حمامة ونسر) حيث الترميز المميز والعلاقة التي تكشف عن جريمة الاغتيال، ثم الشيخ حسني والرجل الذي كان معه.
وفي قصة “مصيدة العسل” اعتمد ياسين محمود على تعدد التراكيب داخل النص، فالمشهد يضم رجلا وامرأة يكرهان الربيع، لتسأل نفسك: من مِنا يكره الربيع؟ سرعان ما يباغتك الكاتب بأنه (ربيع شرق أوسطي في بلاد شمال إفريقيا يعني محملا بالرمال والأتربة، وهنا كانت المعضلة، فالأتربة تقصد العيون)، إسقاطات متوالية عبر إطار فانتازي تاريخي، ثم الترميز الكاشف في قصة (جيلد تعني نقود)، إذ يناقش قضية مهمة وهي صراع الشرق والغرب، ويستند إلى حوار دار بين التاجر والحكيم أضاف الكثير من التشويق داخل البناء الفني للقصة، يقول على لسان الحكيم:
(لقد أحرقت الحرب كل الحكمة. لم يبق بعد الحرب سوى الصلبان التي يعلقوننا – نحن الحكماء – عليها، ولا نملك فسحة بخلاف ساعة الراحة، فنأكل ونشرب ونقضي حاجتنا وما يتبقى نقضيه مع أحبابنا كما أفعل معك الآن. تركونا هكذا.. لا أحياء ولا موتى؛ لعل الأيام تنصفنا ذات مرة ونتحول إلى هُبل أو إيساف ونُعبد حول كعبة وهمية يبينها الناس من ذكريات الحرب المحطمة.. هكذا أخبرنا اليهود يا حفيدي الحبيب.)
وفي قصة “ميثولوجيا تشريحية” هناك ترميز للمحتل والمنتصر، وهي امتداد لعوالم عديدة يعيش بينها الراوي، تدور بين عالم فانتازي كارتوني يتشكل كما أراده المؤلف، وعالم منطقي معتاد يعرف كيف يتلاعب بالأدوات ويستخدمها وكيف يذهب بالمتلقي حيث يريد.
وحقيقة فإنه على الرغم من البناء الذي انحاز إليه الكاتب إلا أن اللغة لم تشهد ثمّة تمرد بل جاءت فنية شاعرية تحتوي على جمل بلاغية ذات إيحاءات متعددة، وقد ذكر في قصة “وسط” عبارة (الأكواب تسقط من يدي/ تنتحر) وفي قصة “ميثولوجيا تشريحية” يقول الكاتب:
(حُلقت كل الرؤوس، رجالا ونساء، أصبحت القبلة شيئا عسيرًا، لا بحكم العرف، ولكن تقنيًا أصبحت شبه مستحيلة. لا نعرف روائح الكذب والنفاق، لكن الأعضاء الداخلية استغلت الآذان المزروعة كأبواق لتنقل صخبها وحزنها).
يغامر ياسين محمود في مجموعته “فوضى الدم”، وسط عالم تائه بين الواقعية والفانتازيا، وهو في رأي كان ينحاز في حقيقة الآمر إلى تجارب ذاتية، متسلحًا بما يحب، وما يؤمن، منحازًا إلى التجربة والتجريب، وربما هذا هو منهجه الذي يطغى على العمل.
يختتم المجموعة بقصة “نهاية”، وفيها (وأنا في الحلبة مع كل هؤلاء وحدي.. أصارع وأصارع وأصارع، هربت إلى الصحاري؛ قُتلت عطشًا وجوعًا، حاولت استجماع كل قوتي، وحفرت قبرًا لي. حاولت الجاذبية احتضاني، إلا أنني وجدت نفسي محاصرًا بجيش من العائلة؛ فيهم أشخاص أبطال الصور القديمة وأناس يرتدون لباس عصور غابرة، يتقدمهم أبي وأمي).