التاريخ لا يختزل من ذاكرة الأجيال، والأيام لا تحذف من تاريخ الأمم، والرجال الأفذاذ لا يمكن طيهم تحت غشاء الاعتيادية، والجواهر لا توضع في الميزان مع ما سواها، والرصاص لا يُشبه سهام الرامي، وعبدالله البيضاني لا يُشبه سواه.
نشأ في قريته الحالمة بني هريرة من بيضان العريقة، في معقل الرجال وبين هدير المعاني ولمعان السيوف، تشرب الحكمة من عيون زهران وتمادى واقعية بين أوديتها، وتسامى مفردة نقية بين سماء الحروف والأرض الطاهرة التي تشبعت بالتجارب والمواقف والرجال الذين لا يمكن أن تطوى صفحاتهم.
الحديث عن الهريري الداهية أشبه بالدخول في مغارة مليئة بالمفاجآت والبارود والكثير من الألغام الحية، فشاعرنا لا يشبه غيره ولا يتشبه بغيره، وهذه أولى المزايا التي لا يملكها إلا النوادر من شعراء التاريخ قاطبة.
عبدالله البيضاني سهل المفردة عميق المعنى، ولا يمكن أن تمسك بالمعنى معه إلا إذا أراد ذلك، وإن لم يهوَ ذلك فأنت كما قال نزار قباني: وستعرف بعد رحيل العمر بأنك كنت تطارد خيط دخان.
الهريري صرخة شعر وفلتة من فلتات تاريخ قبيلة زهران العريقة، هذه القبيلة التي لا يمكن أن يعتلي صهوة بلاغتها إلا الفرسان فقط.
عبدالله البيضاني سنبلة مذهبة انحناؤها قيمة وشموخها ديمة طالت جبال الشقر وهضاب النقض وحجارة الفتل، لم يتصنع التميز ولم يتفنن في جلب الأضواء بل أتت إليه صاغرة بكل سلاسة تطلب وده، وتتفنن في رفعته وسموه.
الهريري ارتقى هامات شعر العرضة ببارود الكلمة وزناد المعنى، هو السهل الممتنع والصعب البسيط الذي فهم الألاعيب الكثيرة، وابتسم لها بدهاء ووضع قدمه عليها بقوة وشموخ.
عبدالله البيضاني تواضعه حكاية طويلة، وأدبه الجمّ فصول عديدة، وأخلاقه العالية جامعة كبيرة درس فيها الكثير وبعضهم نجح، والبعض لازال يبحث عن منهجها ويتتلمذ في فصولها.
الهريري ذكي جدًّا في بدعه وأكثر دهاءً في رده، ربما يرى البعض مفرداته؛ وكأنها تعني رايةً قريبة وهو يشير بدهاء الفارس إلى الشقيقات السبع من نجوم السماء.
قل فقط: عبدالله البيضاني وستجد أن تعبيرك ووصفك لا يشمل كل شيء؛ فالبيضاني هو كل الأشياء في صورة شاعر، هو سادن الحرف وبؤرة المعنى، هو نهر البساطة العذبة وشموخ الأبطال الصناديد، هو عنوان شعر العرضة عندما حاول الزمن إضاعة العناوين.
وأخيرًا وليس آخرًا.. كل الشكر لله أن هذا الفارس الأبي والشاعر الأسطورة والجوهرة اللامعة ابن لقبيلة زهران العناصي.