يحكى أنّ أهل بلدة كانوا يستقون الماء من عين تنحدر من شقّ في صخرة، فأراد أحدهم أن يكون له مكانة بينهم فلم يجد سوى تلك العين، قال: إنّ ماءكم الذي تشربونه من هذه العين بعضه صالح وبعضه آسن فاسد، وسوف أخرج لكم الفاسد من الصالح، فعمد في غفلة منهم فغرز حجرًا في فوّهة العين فخرج الماء من جانبي الحجر فإذا هو يصبّ من مخرجين، وقنّن لهم أنّ أحد المخرجين ماؤه فاسد والآخر ماؤه صالح، فانبهر به مجموعة من المغفّلين، وعدّوه حكيمًا، بل ظنّوه عالمًا يصدرون عن رأيه وحكمته، وبالغ بعضهم فزعم أنّه ورث عصا موسى.
لقد اطّلعتُ على مقال للدكتور عبدالله الغذّاميّ عن شجاعة العربيّة، ووصف ابن جنّي لهذه الشجاعة، وهو مدخل جيّد لإظهار مزايا العربيّة. غير أنّه استحضر إلى جوار هذا العنوان عبارة “قل ولا تقل” وهي عبارة تشير إلى عدد من مستويات اللغة بدءا بمستوى الصحّة والإلزام، وانتهاء بمستوى الاختيار والتوسّع والجمال.
فأنشأ الدكتور الغذاميّ خصومة بين جانبين من المعرفة اللغويّة؛ جانب القاعدة التي تقوّم الألسنة، وجانب الأسلوب الذي يُبنى على القاعدة ولا يصادمها، وكأنّ مستوى صحّة المعيار ينافي مستوى دقّة الاختيار. ففكرة المقال جعلت “قاعدة قل ولا تقل” مناقضة لموضوع شجاعة العربيّة من الحذف والذكر والتقديم والتأخير والحمل على المعنى.
ولعلّ الدكتور الغذاميّ نسي أو تناسى -ولا أقول جهل- أنّ العلماء الذين وضعوا قاعدة: “قل ولا تقل” هم الذين جمعوا أطراف “شجاعة العربيّة” من الحذف والذكر، والتقديم والتأخير، والحمل على المعنى، والتوسّع والمجازات، والاستعارات، والصوّر، وتنوّع الأساليب، وتعدّد الخيارات، وسعة مدارات اللغة التي تمنح الكاتب القدرة على إنشاء الأساليب، وابتكارها.
واتّخذ الغذّاميّ من عبارة ابن جنّي سوطًا يسلّطه على المعايير اللغويّة؛ برغم أنّه في مقاله هذا لم يخرج عن معايير “قل ولا تقل” ولكنّه -لإثبات الخصومة بين المعيار والسعة في الاختيار- يستشهد بمواقف غامضة، لا نعرف لها نموذجًا واحدًا ممّا خطّأه أصحاب معيار “قل ولا تقل”.
إنّ مستوى الصحّة الذي لا يقبل رفع المنصوب؛ ولا جرّ المرفوع يعدّ أساسًا في بناء الأساليب. ولا يكون الكلام عربيّا صحيحًا وهو ملحون. أمّا مستوى السعة والاختيار والجمال فإنّ عبارة “قل ولا تقل” لا تلامس هذا المستوى إلّا حين يكون الاختيار مشتملا على خلل جماليّ فهو يميّز الأجمل من الجميل، والأحسن من الحسن، ويدع للكاتب اختياره في إطار الصحّة الأولى التي تقوم عليها سلامة الأسلوب، ودقّة دلالته.
ويعدّ أسلوب طه حسين من أرقى الأساليب التي تصالحت مع “قل ولا تقل” بمستوياتها المتعدّدة. فكان تطبيقه العمليّ لهذه العبارة مخالفًا لدعوته النظريّة في كتاب الأدب الجاهليّ التي دعا فيها إلى عدم التقيّد بشيء في اللغة، فهو لا يعني الخروج على معاييرها، بل أسلوبه أشبه بأسلوب أدباء العرب العبّاسييّن وكتّابهم.
ولذلك لم يحسن الدكتور الغذاميّ اختيار كاتب يتصادم أسلوبه مع “قل ولا تقل” فلو أراد شاهدا على من يتصادم أسلوبهم مع “قل ولا تقل” لمثّل ببعض كتّاب الصحافة الذين يكتبون بأسلوب عامّي تدخّل في ترقيعه قلم المصحّح اللغويّ في الصحيفة.
والفصاحة التي اشترطها العلماء مؤدّها خلوّ الكلام من “العيوب” في أصوات المفردة، ودلالتها، ووحشيّتها، وتأليف الكلام فلا يكون معاضلا لا يستقيم لفظه على معناه، ولا يُبتدع فيه بنية لفظ يكسر قاعدة صرفيّة بها تتميّز العربيّة بوصفها لغة اشتقاقيّة تتأثّر الدلالة فيها بتغيير حركة في البنية، أو تبديل في تركيب الأسلوب يؤدّي إلى استغلاق الدلالة، أو يحيل المعنى إلى غير وجهه الصحيح.
وعلى نمط هذه الأسس والمعايير الواسعة المدى، الشاسعة الأفق، يستطيع المتكلّم بالعربيّة أن يكون صحيح الأسلوب، جميل العبارة، رشيق الصياغة.
إنّ معيار “قل ولا تقل” قائم بكلّ قوّته في كلام الدكتور الغذاميّ، فإنّك لن تجد في مقاله فعلا منصوبًا، ولا مفعولا به مرفوعًا، ولا مجرورًا. بل وافق أسلوبه أسلوب العرب القدماء فحذف الغذّاميّ، وقدّم، وأخّر في مواضع عدّة لا مجال لحصرها هنا.
ولكنّه لم يقصر حديثه على الأساليب، بل تجاوز ذلك إلى اعتبار علم النحو وشواهد النحاة علمًا محدودًا أودعه في ثلاجة الموتى، ولو كان هذا العلم كما زعم لما كتب هو مقاله هذا بلغة مبنيّة على ما في ثلّاجة الموتى التي يراها سياجًا سلطويّا. وليته فعل مثل طه حسين إذ لم يدع إلى تكفين النحو وإيداعه ثلاجة الموتى.
واخيراً أتساءل كيف بنى الغذاميّ حجّته في مخاصمة “قل ولا تقل” على كلام ابن جنّي في شجاعة العربيّة، وفكرة شجاعة العربيّة هي أساس من أسس علم البلاغة الذي يزعم الغذّامي نفسه في محاضرة قبل أعوام- أنّه علم مات وانتهى ولم يعد له مكان في هذا العصر؟! فالبلاغة التي هي شجاعة العربيّة ماتت في نظره منذ عقود، ومع ذلك فهي حجّته في المقال ، والنحو عنده محنّط في ثلاجة الموتى مع أنّ مقاله مكتوب بالنحو المكفّن الميّت.
فلعلّ الدكتور الغذّاميّ ينظر في هذه التناقضات المتتالية في مقاله، ويتذكّر أنّه لم يعد من اليسير تمرير فكرة الماء الفاسد والماء الصالح بتشقيق علم العربيّة وبعثرة بنائه الخالد.!
0