لا يختلف اثنان على أن الشاعر عبدالله البيضاني من شعراء المعنى والمبنى في العرضة الجنوبية، ولا يشك عاقل بأنه شاعر الجنوب الذي ينصت له الحفل عن بكرة أبيه، ولا ينكر أحد بأنه صاحب أقوى ثنائية مع الشاعر الكبير محمد بن مصلح -يرحمه الله-. قدّما أجمل قصائد العرضة في العهد الحديث، وعاشت معهما الحفلات عصرها الذهبي.
في هذا المقال سوف أتحدث عن قصة التأثير الذي يلعبه شاعر كبير في حياة شاب صغير، عاش بعيدًا عن الديرة وغريبًا عن أجواء العرضة، ورغم أنني من بيت شعر ومن بيئة شاعرية إلا أن ظروف الحياة شاءت بأن يكون مسقط رأسي في مكة المكرمة، نشأت في حواريها وترعرعت بين أزقتها وتأثرت ببيئتها، وشربت من زمزم بجوار البئر. كان أول طلوعي للديرة بعد إجازة نهاية العام الدراسي وأنا في الصف الثاني المتوسط، كانت الحفلات في ذلك الوقت قليلة جدًا وتُعد على الأصابع.
ذات يوم حضرت إحدى الحفلات في جدة وقفت تفرجت ولم يستهويني الوضع؛ فجلست في طرف الحفل مع الشباب نسولف بعيدًا عن أجواء العرضة. مرت السنون وبدأت تصل إلينا أشرطة كاسيت العرضة، واستمعت لعدد من الشعراء مثل: الأصوك وطريخم والريمي وابن مصلح والغويد وحوقان، وشاعرنا الرمز والعلم صالح اللخمي وغيرهم من الشعراء الكبار في ذلك الوقت إلى أن جاءت حفلة عياس وشهدت قارعة قوية بين سعيد الأصوك -يرحمه الله- والشاعر عبدالله البيضاني؛ استطاع الشاب أن يجاري الأصوك صاحب الصيت والسمعة والخبرة العريضة، منذ تلك الحفلة جذبني البيضاني لقصائد العرضة، فقد شهدت انطلاقة (الهُريري) الحقيقية وشهادة ميلاد شاعر يُشار إليه بالبنان غيّر في شكل ومضمون المحتوى وتذوقنا معه الإبداع في البدع والرد . من بعد حفلة عيّاس عشقت العرضة، وأدمنت السماع للشاعر المؤثر عبدالله البيضاني، أصبحت أحضر الحفلات متنقلًا ما بين مكة وجدة والطائف والديرة، وأتذكر حفل استقبال زهران للعبادلة من الأشراف في بالحكم. كنا نتابع أخبار الهريري بشغف وذات مرة عزمنا السفر إلى منطقة عسير؛ لحضور حفلة مشارك فيها غير أن قائد المركبة هوّن وريحنا من عذاب السفر. مرت خمسة عقود وظل البيضاني محافطًا على الصدارة المقرونة بالرزانة ولم أخبر أن زل لسانه بالفاظ سوقية على أحد وبات الموروث اليوم بحاجته لأكثر من أي وقت مضى.
ختامًا
كثير هم الذين مروا على ذاكرة العرضة، ولكن قلة منهم من أثرى الساحة، وأثَّر في المجتمع، وقليل جدًا من خلّد التاريخ قصائده مثل عبدالله البيضاني الذي صح فيه قول الزهاوي:
إذَا الشِّعرُ لَم يَهزُزكَ عِندَ سَمَاعِهِ”
فَليسَ خَليقًا أَن يُقَالَ لَهُ شِعرُ
أشكر اللجنة المنظمة على منحي فرصة المشاركة في حفل تكريم الشاعر الكبير صاحب الأثر والتأثير، الذي منحته جُل وقتي وكنت مستمتعًا بعكايض قريحته التي تعبّر بجلاء عن الانسان والمكان في ديرة غامد وزهران.
كما أبارك للغالي أبو ماجد هذا التقدير المستحق وغير المستغرب من الكرام ونيابة عنه أختم ببيت من إحدى قصائده:
والله إنّا ما نحن الرفيق إلا من الشر
والجمايل ما تكلف على من حبّها