تأثرت الدراسات التاريخية بالمدينة المنورة، بعاملين أولهما: دراسة حديث الرسول وسنته وثانيهما: مبدأ الإجماع الذي كان محليًا– أي إجماع المدينة-أول الأمر، ثم توسع فيما بعد، وهذا أدى إلى دراسة سيرة الرسول وسير أتباعه، وإلى دراسة الخلفاء الراشدين ومشكلات الشورى، وجمع القرآن والفتنة، وربما بعض النواحي المتصلة بصدر الدولة الأموية.
أما(المبتدأ) أو تاريخ الخليقة والأنبياء، فإن دراسته تعتمد بالدرجة الأولى على كتب أهل الكتاب وقصصهم، فهو موضوع طارئ على الدراسة التاريخية، وقد وجد طريقه إليها بتأثير وهب بن منبه بالدرجة الأولى في ابن إسحاق، وهذا العنصر الدخيل لم يلقَ قبولًا في مدرسة المدينة، وإذا كان ابن إسحاق تناول المبتدأ، فإن الواقدي تجاهله وعبر بتأكيد عن فكرة وحدة الأمم وتكاملها، وبعد الفتنة العظمى وظهور العصبية القبلية، شاعت بين المؤرخين أخبار الأمم القديمة والديانات غير الإسلامية مثل: اليهودية والمسيحية والمجوسية، والبوذية من الديانات السماوية وغير السماوية؛ فتوافرت الأسباب لجمع الأخبار وتدوينها.. لرغبة المسلمين في الوقوف على القصص القرآني، والتي تحمل الكثير من الأخبار والأحداث التاريخية عن الأمم السابقة، وتصف أفعالهم وأمور حياتهم ومعتقداتهم كأحد الأسباب التي دفعت المسلمين إلى الاهتمام بالكتابة التاريخية، وقد تناولها العلماء والمؤرخون المسلمون في كتاباتهم بالشرح والتحليل؛ وذلك للاستفادة منها في أخذ العبرة والعظة والاستفادة منها في أمور الحياة، قال تعالى في قرآنه الكريم (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) (يوسف: 3).
وميل بعض الخلفاء إلى الوقوف على سياسة الملوك ومكائدهم، واستخدام التاريخ وسيلة لدعم حكوماتهم وسياساتهم وتفنيد آراء معارضيهم ومخالفيهم، ومن العوامل المساعدة في كتابة التاريخ كان تدوين الأنساب وأيام العرب في الجاهلية والإسلام بسد حاجة الشعراء والأدباء في مقام الفخر والهجاء.
وحرص الخلافة للأنساب لأهميتها في تقدير العطاء للجند، ورغبة الولاة في معرفة ما فتح من البلدان صلحًا وما فتح عنوةً، وما فتح بعهد من حيث الجزية والخراج.
كما استخدام التاريخ في الذود عن المذاهب الدينية خاصة، وقد شهد العالم الإسلامي ظهور الفرق الدينية، وقد حاول أتباع كل مذهب أو فرقة دينية الذود عن أسس ومبادئ مذهبهم من خلال وضع الكتابات والمؤلفات التي دافعوا من خلالها عن مذهبهم؛ خاصة وقد أدت التطورات التي شهدتها الفترة الباكرة من تاريخ الإسلام على الصعيد السياسي والعسكري والاقتصادي بتأثيراتها الفكرية والاجتماعية البعيدة المدى، إلى ظهور الحاجة إلى استخدامات جديدة للمعرفة التاريخية كأداة حضارية، وخلال عدة قرون أصبحت المدينة المنورة مركزًا علميًا هامًا وملتقى طلبة العلم؛ حيث جاور بها وتخرج منها علماء كثيرون في مختلف المجالات، وأصبحت منبعًا علميًا نهل منه العديد منهم، ومن ذلك الوقت بدأت الكتابة التاريخية تُمثل مكانة رفيعة ، وتأخذ مجالًا أوسع وأعم وأعمق وأشمل
1
جزاكم الله خيرا سعادة أخي الفاضل بروفيسور عايض الزهراني ، وهذه السلسلة المقالية العلمية المباركة ، عن تاريخ الحركة العلمية في المدينة المنورة . نفع الله بكم وبعلمكم وما تقدموه سعادتكم من عظيم المساهمات القيمة ، وتقبلوا سعادتكم خالص التحية والتقدير والاحترام .