حكاية
“زهرة” اسم فتاة أفريقية لا تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها.. كان شبان قريتها يتمنون الزواج منها؛ فقد وهبها الله ملامح متناسقة جذابة وعيونًا عسلية تحمل إقبالًا وحبًا للحياة.. حين تسير في الشارع، وهي في طريقها إلى مدرستها، كانت نظراتهم تتبعها، وهي تسير شامخة مرفوعة الرأس لا تنظر يمينًا ولا يسارًا بل تقفز بقدم واحدة كطائر اللقلق (مالك الحزين) الذي يُغرد في سعادة، وهو يتنقل بين الحقول الخضراء.. وكانت في أحيان أخرى تتقافز في خطوات سريعة متناسقة، وهي تقذف بحقيبتها المدرسية إلى أعلى مسافة في الهواء ثم تمسكها دون أن تفقد توازنها وهي تجري.. في حين يصدر عن شبان القرية تعليقات الاستحسان لما تفعل .. وفجأة تعرضت بلادها لرياح الخلافات السياسية وصاحب ذلك جفاف شمل كل أنحائها ..استنفد مخزون الطعام عند كثير من أهل القرى بعد أن جفت أرضهم وقل المحصول الزراعي.. قالت زهرة لأمها وقد أحزنتها المعاناة التي تحيط بأسرتها من كل جانب ليس أمامنا يا أمي إلا أن أهاجر مثلي مثل الكثير من شباب القرية وبناتها.. يقولون: إن هناك حاجة لخادمات في بعض البلدان المجاورة، وأن هناك مكاتب في العاصمة تقوم بتشغيلهم.. سأذهب إليهم لعلي أجد عملًا أساعدكم من خلاله بالقليل مما تحتاجون إليه.. غادرت “زهرة” قريتها بعد أن رضخ أبوها لمشيئة أمها.. وحطت بها الطائرة في بلد بعيد على الجانب الآخر من المحيط الواسع.. لتعمل عند أسرة مكونة من خمسة أفراد.. رجل يعمل طبيبًا وزوجته المعلمة بإحدى المدارس الثانوية وطفلان أكبرهما لا يتجاوز العاشرة.. أما الشخص الخامس فكانت أم الطبيب، وهي سيدة مسنة تعيش في كنف ابنها الوحيد.. مر الشهر الأول على عمل زهرة لدى الأسرة سريعًا، كانت تطوف بها أحيانًا أشباح حزن وربما قلق أو خوف.. تبدده المعاملة الكريمة التي تجدها من أفراد الأسرة جميعًا.. في أحد الأيام قالت لها سيدة المنزل، وهي تمنحها مبلغًا من المال سنذهب هذا المساء وأنت بصحبتنا للتمشية، وتناول طعام العشاء خارج البيت.. وأريدك أن تكوني مستعدة لذلك.. مشطت “زهرة” شعرها وارتدت أجمل ما عندها من ملابس..ذكرتها شوارع المدينة التي كانت تموج بالحياة والناس بأيامها الجميلة في قريتها يوم كانت تلهو مع صاحباتها… بعد تناول طعام العشاء قالت لها سيدتها يمكنك أن تذهبي لبعض الوقت للتجول في أنحاء المكان ربما تلتقين بإحدى بنات بلدك أن الكثيرات منهن يعملن في البيوت مثلك.. كان الكورنيش يموج بالحركة والحياة.. مياه البحر تستلقي أمامها في هدوء وطيور النورس التي تملأ المكان بصخبها.. تذكرها بقريتها التي يتهادى على أطرافها النهر الكبير، وهو يمضي في طريقه حاملًا الخصب والنماء لكل القرى التي يمر بها.. كان الأولاد والبنات ينتشرون جيئة وذهابًا على أرصفة الكورنيش المممتدة يتوقف بعضهم أمام باعة القهوة والأيس كريم والحلويات ليشتروا ما يروي عطشهم وجوعهم ..تقف “زهرة” عند بائع الأيس كريم..تراجعت عن الشراء وصرفت التفكير فيه حين علمت أن كوب الأيس كريم سوف يكلفها جزءًا كبيرًا من المبلغ الذي معها..اتجهت إلى بائع المرطبات طلبت منه بكلمات متعثرة أن يأتي لها بزجاجة باردة دفعت له قيمة الزجاجة، واتجهت إلى ركن شبه خالٍ، وأخذت ترتشف ما بداخلها في سعادة غامرة.. في المساء عند عودتها إلى المنزل قالت لسيدتها، وهي تُعيد إليها ما تبقى من المبلغ الذي منحتها إياه.. أرجو يا سيدتي أن تضيفي هذا المبلغ لراتبي وتبعثي به .. لأمي..