يلتحف ببردته المقلّمة بألوان الطيف التي لا يُجيد قراءتها إلا سهيل اميماني، تلك الألوان الزاهية، والتي تمنحنا لذة الدفء، ونشوة القرب من “ابر فاطمة”؛ كي نرى حكايات تهامة وجبالها الشماء وتجاعيد طرقها وحبات قمحها وذرتها.. نرى المطر ونستنشق رائحة الطين الذي يتمازج بعضه بعضًا.. فيعطينا لحمة القبيلة وعادات تهامة الأصيلة، ويكون ثقافة الانتماء روحًا وجسدًا .. بردة ابرصياد التي كثيرًا ما كانت شاهدة عصر في ثوراته الفكرية وصراعاته الثقافية ووطنيته الصادقة .. !
بردة ابرصياد التي تتشبّث به كمعشوقة تشتم في هذا التهامي ذي السحنة الحنطية أصالة الماضي وحكايات الأجداد وتراتيل الأمهات.. حين “يدرّهن” بأطفالهن في “هندول” مصنوعًا من كسوة زواج أو هدية عيد أو حج وبقايا “حطّ” من البن “مصرور” في منديل أصفر و”مسفّع” مزركّش يمنح تلك المعشوقة التشبث طويلًا بهذا المعشوق التهامي الذي حين يغني لها لا تملك قلبها ولا دموعها .. هذه البردة التي يجد فيها سلوة تغنيه عن كل الشعر والنثر؛ فهو يحب الحياة ولم يحترف الكتابة بل يعيش الحياة بطمع الجمال والإبداع، ويسقط جماله على قرص الشمس؛ كي يمنح الناس حرية التعايش والسلام والحب والأمان .. ابرصياد الذي يمسك على بردته بيد حانية في ليال السروات القارسة؛ كي يمنح تباريحه التهامية قبلة دافئة وبلهجته التهامية اللذيذة يصدح منتشيًا: “الله يسقيش يا تهامة لا ضباب ولا برد”.. ابرصياد الذي وهو يصطاد أفكاره، ويستمد قوته مع كل طلقاته النارية المدوية وقناعاته من فرائسه التي يصيب كبدها وكبد الحقيقة ..
ابرصياد الذي يستطيل بطروقه الشعبية كلما عصفت به ذكرياته وأحلامه ونجابته مع بلاد امتهايم، ورحلاته الدراسية وبر السراة ومواسم الحصاد.. ابرفاطمة الذي رأى فيما يرى النائم أنه في عرس تهامي وإيقاعات “الزيـر” و”الزلفة” ترأب صدع القبيلة كي يصطفّوا في صفين يقودهم هذا التهامي نحو عين سهيل اميماني علوًا ورفعة ومنزلة !
يلوث عليه قومه كي يمنحهم الرأي والمشورة والحكمة .. يستجدونه ويمسكون بأطراف بردته؛ كي تمنحهم روحه الجميلة التي يقال بأنها تملك إرثًا عسيريًا تهاميًا سرويًا قد رأى في منامه الأتراك وعقبة امصماء وكهانة حرف يزاحم الجمال كي يذيب رحلات الأسفار والأمصار .. ابرصياد الذي حين ينزل بندقيته يعود يقبّل رأس أبيه وأمه وجدته يقولون له :
“ابرفاطمة” الذي يحتبي ببردته ويحتسي قهوته المحوَّرة وينتزع نايه الحزين بين كومة القصب الممطور؛ كي يبوح بأسراره في خيوط أزمنة تحصد الشمس عند المغيب، وتلتحف السنابل والجبال والطيور ولومة الثيران صوت الغانيات على مفرق الذكريات تكتسي العشش والسهوات، وفزّاعات الطيور أهازيج الحصَّادين والحميان وتصفير الرعيان !
ابر فاطمة الذي يحاول أن يبني وجه الثقافة، والحجر وإن تهدَّم.. ويسابق السيل ففي وجهه لهفة الطفولة والشويطة وغواية الصبايا على خديه، وعصابة الكادي قد طوَّقت عنق البرك وجيد الرياحين وشفاه السكب الأصفر المخضب بالسمرات.
ابرصياد.. ابرفاطمة.. ابرطالع التحف ببردته الدريهمية، وأغمض عينيه كي يلتقي بأحلامه الطفولية الشاردة في ليلة ابرصياد وبردته التهامية؛ ليكون ديوانًا عظيمًا يصعب على اللاهثين خلفه تقصي أثره “وا فاطمة” رثاء لكل أمهات الدنيا كان ثمن هذا الديوان جائزة أبها أو “نوبل إبراهيم طالع” كما يحب أن يطلقه عليها.
ومضة:
حين يُلقي ابرصياد بردته على وجه الجزيرة ترتد بصيرة وتمتات تهمس للثقافة هذا ديوانه ديوان أمَّنا – رحمها الله “وآفاطمة”.