المقالات

العلل الخفية لفساد الذمم الوظيفية (1)

التعمق في بؤبؤ الحقيقة ولبابها يسوق إلى أقرب الطرق لمعرفة كنهها، وما تخفيه بين تضاعيفها من مفاهيم ومعانٍ، وهذا مما يُساعد على وضع النقاط على الحروف، والاستنباء بسراية بوصلة اتجاه الأمور نحو التصعيد أو الانحسار، ومن العلوم الجليلة التي نوه بها الإسلام والمرتبطة بالسلوك الإنساني: علم الفراسة، وعلم المستقبل، وعلم التخطيط، وعلم المحاسبة السلوكية والرقابة العامة، وعلم الإدارة، ومن أصعب المهام التي تنهض بها الأمم: اختيار الموظف المناسب في المكان المناسب، وما يتحمله من تبعات والقيام بحقها نحو النهضة والبناء والتطور، والمتخلق بسمات الحرفية المهنية الراقية والمبدعة، ويأتي في طليعتها الأمانة، وسداد الرؤية، وقوة الإرادة والشخصية، والوعي والبصيرة، والكفاءة والتي جمعت في قوله تعالى: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)(القصص: 26) فالقوة بمعناها الرزين الحليم، والأمانة بمعناها الشامل الكامل، هي المنظومة الشاملة لكل ما توصلت إليه علوم الإدارة والسياسة والتخطيط والتدريب في عالمنا المعاصر.. إلخ، وعليه فإن كل انحراف في أهلية الموظف؛ فينصرف إلى عدد من العلل الخفية أولًا، ومتى تم كشفها ومعالجتها، فإن الشفاء مما دونها من العلل الظاهرة قاب قوسين أو أدنى، وينفرد علم السلوك في الإسلام وحده بكشف هذه العلة الخفية، وهي علة (النفاق) العملي.
وهو مشتق من جحر اليربوع المسمى (النافقا) وله باب بعيد يسمى (القاصعا)، وهو مرقق من الداخل فإذا أُوتي من باب النافقا، ضرب برأسه القاصعا فخرج هاربًا بعيدًا، والقاسم المشترك بين المعنى المعنوي والمادي بين جحر اليربوع والمنافق في تشابهما في الظاهر والباطن وتمثيلهما في التناقض بين الظاهر والباطن، وهنا مربط الفرس، فكل ألوان الخيانات الوظيفية من الاختلاس، وسوء استخدام السلطة، والتعصبُ، والعنصرية، والظلم فمرده إلى هذه الشخصية المتناقضة، فالنفاق العملي هو الحمولة السيئة لجميع العلل الخفية التي تُمثل الازدواجية الممقوتة، للشخصية التي لا تنجي من شؤومها وشرورها مجرد الحصول على الشهادات العالية، أو تبوء المناصب العامة الرفيعة، أوامتلاك الثروة المالية الهائلة، أو أداء العبادات الظاهرة، أو التحلي بالسمات الظاهرة كإعفاء اللحية وتقصير الثياب، لكونها علة خفية باطنية لا يتفطن لها إلا القليل من الناس، وخاصة الذين وقعوا أسرى رسيس الشهوات الخفية وسحرها، التي تغزو الجوارح الخمس وتجهز على كل معاني الشهامة والشرف والنبل والأمانة والرجولة قال الإمام الحسن البصري (رحمه الله) عن النفاق العملي: (لا يخافه إلا مؤمن ولا يأمنه إلا منافق)، وسأل الفاروق عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) كاتب السر النبوي “حذيفة” -رضي الله عنه- هل عدني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين وعمر وما أدراك عــمــر في إيمانه، وزهده، وشجاعته، وصلاحه، وعدله وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أحد المبشرين بالجنة، والذي يفر الشيطان من فجه كما ورد الحديث الصحيح من وجهه كما ورد في الحديث مخاطبًا النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبًا عمر (رضي الله عنه) (ما سلكت فجًا إلا سلك الشيطان فجًا غير فجك) فكيف حال من هو دونه ؟؟!!
فالمنافق لا يتورع من الكذب، ولا يترفع من الخيانة، ولا يتنزه من فجور الخصومة، ولا يتوانى من خُلف الوعد، ولا التلون، ولا بيع دينه بعرض من الدنيا، مع الحقد والحسد والرياء والغرور والعجب؛ مما يدل على أن جميع أبواب الفساد مشرعة أمامه للسرقة، وتلقي الرشاوى، واختلاس الأموال، وثمة علة خفية لا تقل عن سابقتها خطرًا، وداخلة في عمومها، والتي يجترحها بعض الموظفين وغيرهم بكل جراءة وإقدام، دون تأنيب الضمير لا بل ويعتبر ذلك من الغنيمة الباردة، والتي وردت على سبيل الخبر والمراد بها عند أهل العلم والفقه والحكمة، بكونها خبرًا يفيد النهي، وبالإمكان تأخير وقوعها، وهو حديث رفع الأمانة وهي من علامات الساعة الصغرى وللحديث بقية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى